الاستقلال والأسئلة الجديدة القديمة

لا يحتاج الأردنيون اليوم شهادة من أحد، ولا دعاية سياسية رسمية لإعادة إنتاج الوطنية الأردنية على قواعد مدنية منتمية ومنتجة. كما لا يحتاج الأردنيون إلى ذكاء جماعي لإدراك هذه الحقيقة، وهم يشاهدون حجم الانهيارات والخراب الذي يحيط بهم؛ ذلك الخراب الذي أصاب الدولة الوطنية العربية وضربها في العمق، في الوقت الذي تقف فيه الدولة الأردنية وسط هذه الانهيارات، وفي البال عقود طويلة من الجدل السياسي والأيديولوجي حول الكيانات الطارئة والأوطان المصطنعة، وكل ما في قاموس أيديولوجيات الاستبداد من أوصاف، نشاهد اليوم حصادها المر ليس في الانهيار السريع لتلك الكيانات، بل في الكارثة الإنسانية القاسية التي قدمت نحو نصف مليون ضحية خلال أربع سنوات، لم يقدمهم العرب في كل معاركهم وحروبهم منذ غزو المغول للشرق!
الأردنيون عليهم اليوم واجب تجديد الاستقلال، بالمزيد من الذكاء العاطفي الجماعي الذي يعيد ترميم العلاقة بين المواطنة والوطنية، بل وإعادة إنتاجهما من جديد، وتجاوز أخطاء الماضي القريب. ما يعني أن ما نحتاجه اليوم هو منظور اجتماعي- سياسي للتنمية السياسية، قائم على تنمية المواطنة والوطنية معا على أسس مدنية، بعيدا عن الانغلاق والأحادية؛ وهو السؤال القديم- الجديد الذي لم تجب عنه الدولة، ولا المجتمع الأردنيان.
كما وقعنا في السابق في خطأ احتكار تيار سياسي للدين، بصفة منحته- عبر الأجيال- شرعية وقوة لا يمكن اليوم منافستهما بسهولة، أو احتواء قدرة هذه الجهة على التعبئة وأحيانا التحريض؛ وهي الجهة التي تعدها طبقة سياسية واسعة وفئات اجتماعية عريضة، بأنها تمثل مصالح فئة جهوية واحدة، بما يتناقض، على طول الخط وعرضه، مع أبجديات الثقافة السياسية للوطنية والمواطنة معا، يتكرر الأمر في قصة ادعاء احتكار الوطنية الأردنية عبر تنظيمات سياسية بعينها. الأمر الذي يحتاج إلى مناقشة هادئة ومرنة، بعيدا عن المصادرة والاصطفاف والتصفيق. فما يزال المسار التاريخي لبناء تشتبك فيه الوطنية الأردنية بالمواطنة الأردنية في جدل مبدع، مساراً في أولى خطواته؛ وما تزال التحديات كبيرة بينما الأرض مليئة بالألغام والأحاجي. ويبدو أن إصلاح العلاقة بين الوطنية والمواطنة هو الخطوة الحقيقية للإصلاح السياسي، من دون مداراة أو لف ودوران.
تمثل عملية الاندماج الاجتماعي والتكامل السياسي مسارا تاريخيا لا يكتمل بين ليلة وضحاها، ولا يمكن أن يُترك إلى ما شاء الله، من دون مراجعة ومراقبة. لأن المجتمعات غير المندمجة اجتماعيا، وغير المتكاملة سياسيا، تبقى تعاني من سيولة عالية، تعد مصدر التهديد الأول لمصيرها. بينما يعد الاختبار الحقيقي لمستوى الاندماج والتكامل في تبلور نهائي لمنظومة المصالح واندماجها بالعواطف والشعور بالذات، كما تعبر عنه الوطنية وتعبيرات الهوية المتعددة. وعادة ما يكون الرهان على نضوج هذا المسار بشكل لا يقبل المساومة مع الجيل الثالث من الأبناء.
إن مناخ الوطنية الأردنية الراهن قابل للبناء عليه، وقابل للازدهار. وعلينا أن نفكر من جديد (ونعترف) هل نحن فقراء بالرموز والتعبيرات الجمعية التي يبنى من خلالها البناء المصلحي والعاطفي الجماعي، وتشيد بالتالي الذاكرة والخيال الاجتماعي؟ وهل هناك مبالغات سياسية في تقدير عمق فجوة المواطنة والمشاركة؟
في يوم الاستقلال، علينا أن ننظر إلى أنفسنا، وأن ننظر حولنا: بالفعل، هذه البلاد تكاد تكون استثناء، لكننا لم نمنحها كل ما تستحقه.