موالد بلا حمص!

منذ أكثر من عشرة قرون، والمصريون يقيمون الموالد التي يحتفلون بها بأعياد ميلاد "الأسياد"، إلى جانب المولد النبوي. فهناك احتفالات بمولد سيدنا الحسين، والسيدة زينب، والسيد البدوي، وغيرهم عشرات الأسياد الذين تنتشر مقاماتهم في القاهرة وطنطا، وبقية المدن المصرية.
الفاطميون كانوا من أسس الطقوس، والتي خبت لفترة في العهد الأيوبي، ثم ما لبثت أن عادت لتأخذ مكانها في الثقافة الشعبية المصرية، وتُكسبها لونا خاصا ميزها عن الكثير من ثقافات الشعوب التي جاورتها وتفاعلت معها.
في الموالد، تدق الدفوف، وتنتظم فرق المديح والإنشاد، ويقبل الناس على المساجد والساحات في جلسات ذكر صوفية؛ يمتزج فيها الشعر والموسيقى والإنشاد والأعمال الكورالية و"الكيوغرافي" أو التشكيلات الفنية، والتي تؤدى بتناغم واتساق يصعب أن تجد مستويات تجاري فنياتها في مناسبات وأوساط أخرى.
للموالد فرق وأشعار ومؤدون، يتباينون في أدائهم وفنياتهم، ولكل مجموعة طقوسها ولونها وأناشيدها وأساليب أدائها، وبالتالي قدرتها على التأثير؛ ما يدفع البعض لملاحقة الفرق المفضلة ومتابعة أدائها، والحرص على حضور موالدها، في أرجاء البلاد كافة.
فاليوم، تكتسب في مصر "فرقة النيل" للموالد شهرة كبيرة، وجماهيرية واسعة، اكسبتاها القدرة على استقطاب مئات آلاف المتابعين لموالدها، والتي تتفوق على أي احتفال فني يحييه نجوم الغناء والطرب والموسيقى، في أي ركن من أركان العالم العربي.
ولأسباب غير معروفة بدقة، ارتبط بالموالد الحمص والحلاوة وعرائس المولد والفول النابت والسكاكر؛ كحلويات وهدايا وأطعمة، يجري تسويقها وشراء كميات منها وتوزيعها على المشاركين. وقد ظل الحمص سلعة تأخذ مجدها أيام الموالد؛ إذ تنتشر عربات العرض للحمص على المداخل المؤدية إلى ساحات الاحتفال، وسط بهجة الباعة الذين انتظروا الموالد بفارغ الصبر. وفي حالات نادرة، قد لا تسير الموالد بالصورة التي يتمناها البعض؛ إما لاكتظاظ المشهد، أو لاشتعال الفوضى، أو نفاد الحمص، فيصاب الناس بخيبة أمل وصدمة، ويغادرون فضاء المولد من دون أن يُفرغوا شحنات شوقهم، ويعبروا بالإنشاد والمديح عن حبهم لصاحب المولد. فيتركون وهم خالو الوفاض، من دون أن ينالوا نصيبهم من الحمص.
وبالرغم من أننا لا نقيم في بلادنا الكثير من احتفالات الموالد، على نحو ما يقوم به إخوتنا المصريون؛ ومع أن ثقافة حمص الموالد غير معروفة لدينا، إلا أننا أخذنا المثل "خرج/ طلع من المولد بلا حمص"، واستخدمناه بكثافة قد توازي استخدام المصريين له أو تزيد. ولا يجد كثيرون منا صعوبة في معرفة مغزى المثل والمقام المناسب لاستخدامه، فليس منا واحد إلا وواجه موقفا أو مواقف يعبر عنها هذا المثل أيما تعبير.
في بلادنا، حيث تشح الموارد يوما بعد يوم، وتتقلص فرص العمل وفرص نجاح المشاريع والأعمال، فيما تكثر الوعود التي لا يتحقق الكثير منها، يجد الشباب المثل معبرا عما يصادفونه من خيبات. وفي كل مرة نندفع باتجاه نصرة قضايا إخواننا وجيراننا ومراعاة مصالحهم، لكننا نجدهم يتركوننا نصارع حدة أزماتنا الاقتصادية، نكتشف أن المثل معبر عن واقعنا أيما تعبير.
إذ إزاء كل النبل الإنساني الذي يلون استجابتنا لمحن إخواننا المنكوبين؛ فنشاركهم ماءنا وخبزنا ودواءنا وغرف صفوف أبنائنا وفرص عمل شبابنا، كما الغرف الإضافية في بيوتنا، نجد العالم يقابل ما نقوم به ببعض كلمات الشكر والاعتراف والاعتذار، وشهادات التقدير وحسن السلوك التي لا تؤثر كثيرا في زيادة نصيب أسرنا من الراشن المائي الذي يتقلص عاما بعد عام! ولا في نوعية التعليم الذي يتلقاه الأبناء في الصفوف التي اكتظت، بعد أن وعدنا صغارنا بتطوير تربوي يجعل صفوفهم مثالية العدد.
ثناءات الرؤساء والسفراء والمسؤولين الأممين؛ وإشادات القمم العربية، لا تخفف من ويلات أسرة فقدت أحد أفرادها نتيجة تأخر دخوله المستشفى الذي لا متسع فيه، بعد أن أصبح لكل أبناء الأمة العربية، بل ومنحت الأولوية للمهاجرين من جيراننا وزوارنا، ممن جاؤوا للاستشفاء. ونصيب الأردنيين من الناتج القومي تقلص، بعد أن أسهمت الهجرات القسرية والطوعية في نمو سكاني بمعدل لم يعرفه العالم منذ عقود.
الأردنيون يُقبلون على مسؤولياتهم الإنسانية تجاه العالم والجوار والإنسانية، كإقبال النُسّاك على الموالد. لكنهم يخشون أن يخرجوا من الموالد، بعد كل المدائح والأناشيد، بلا حمص! عندها سيجدون في ثقافة الموالد المصرية بعض العزاء، ولو إلى حين.