معان.. قصة الهشاشة في الأسواق والمجتمعات

تقتضي سلسلة الازدهار والتقدم، بداهة، تكريس الاعتدال والتسامح والتعددية والتنوع؛ وأن تتشكل المجتمعات حول مواردها ومدنها، ثم إنشاء منظومة اجتماعية وثقافية تستجيب استجابة صحيحة وملائمة للموارد والأولويات والاحتياجات الناشئة للمدن والمجتمعات، تستوعب جميع فئات المواطنين، وتحفّزهم على المشاركة الصحيحة والنافعة، وتُخرج عمليات المشاركة العامة والبحث عن المعنى والجدوى، من اللجوء إلى العنف والتطرف.
ما الخطأ الذي حدث ويحدث، سواء في معان أو سواها (فمدننا جميعها مهددة بالهشاشة)، في حلقات تنظيم الموارد والمدن والمجتمعات؟ وكيف تتحول المؤسسات الحديثة إلى العمل ضد نفسها؟
إن الموارد في تجددها وتشكلها وتوزيعها وإنتاجها، تنشئ قيادات ونخباً اجتماعية واقتصادية وسياسية، وفرصاً وأعمالاً ووظائف وأسواقاً. وفي متوالية الفرص والموارد، تكون عمليات تنظيم التنافس عليها. فتتشكل أول منظومة "شريرة" عندما لا يكون في مقدور جميع المواطنين المشاركة في منافسة عادلة على الفرص والقيادة.
وهذا التنافس يقتضي تنظيمه استناداً إلى قوانين ومؤسسات تشريعية وقضائية، تجعل الصراع والتنافس سلميين، وتتيح للمواطنين -وعلى قدم المساواة- الحصول على حقوقهم وحمايتها وتعزيزها. وتنشأ هنا "الحلقة الشريرة" الثانية؛ عندما لا تكون ثمة مؤسسات كفؤة وعادلة لتنظيم التنافس، وعندما تغيب سيادة القانون ثم المساواة التامة بين جميع الفئات والطبقات أمام القانون والمحاكم. ففي ظل هذا الغياب للعدالة والمساواة والمؤسسية الكفؤة والفعالة لتطبيق العدالة والقانون، يغيب عقد اجتماعي ويحل محله عقد اجتماعي آخر!
يغيب العقد الاجتماعي القائم على سيادة القانون، والمنشئ لمؤسسات اجتماعية وإعلامية ومهنية تحمي المصالح والحقوق والمكتسبات والتنافس السلمي على الفرص والموارد، ليحل محله عقد قائم على الاحتكارات والامتيازات والهيمنة على الفرص والأعمال وتوزيعها على أسس غير عادلة؛ كالقرابة والتبعية، وحرمان المبدعين والعصاميين والمبادرين. فيتحول الصراع من سلمي إلى عنيف، لأن أصحاب الحقوق الضائعة يشعرون أنهم ربما يستعيدون حقوقهم وفرصهم المهدورة أو المغتصبة. أما إن خسروا المعركة، فلن يخسروا شيئاً جديداً، لأنهم خاسرون أيضاً من دون المعركة. فتبدأ سلسلة من العنف والانتقام بما يجعل الرجوع عنهما صعباً أو مستحيلاً. فالنخب المهيمنة تشعر، أيضاً، بأنها لن تحمي مكتسباتها إلا بالعنف والبطش، وإن لم تنجح في ذلك فهي كانت ستخسرها من غير عنف أيضاً. وهكذا يصبح العنف هو الوسيلة الوحيدة الممكنة لحماية المكتسبات والحقوق أو الحصول عليها. وتصبح هذه هي القاعدة في الصراع وتنظيمه، بدلاً من قاعدة أن التنافس السلمي هو الوسيلة الوحيدة لتحصيل الحقوق وحمايتها.في هذا الصراع الصفري أو الوجودي، لا مجال للتعددية والتنوع والمشاركة، ولا التسويات والتنازلات؛ ثمة هيمنة كاملة أو هزيمة كاملة. وحول هذا الصراع تقوم تجمعات وأفكار ومؤسسات ومدن ومصالح تترسخ وتتطور، وتصبح في اختلال الهيمنة معرّضة للزوال والتدمير، ولا يعود ثمة مجال أمام المستفيدين منها والمجتمعات والطبقات المتعددة المتشكلة حولها، سوى الانخراط التام في الصراع والعنف.
وتنشأ "الحلقة الشريرة" الثالثة عندما يتحول التخلف والفشل إلى مؤسسة متقدمة؛ تقنياً ومهنياً ومالياً. ويلتبس هنا التقدم والتخلف والفشل والنجاح. فالموارد والمعارف والتقنيات، تعمل لأجل حالة يفترض أنها تنشأ سابقة للوفرة والمعرفة، فتصبح البداءة متماسكة قوية وقادرة على إنتاج خطاب وثقافة ومؤسسات وجامعات، ولكنها تنتج العنف والكراهية، والمعرفة والأفكار المعززة لهذا الخراب!