بين ألفين ...!
وافقت على الذهاب مع صديقي لأداء العمرة ولم أكن أعلم ما ينتظرني في تلك الرحلة يقول إبراهيم، ففي طريق العودة تفاجئت بصديقي يقف عند إحدى القرى وسألت عن السبب ليأتي الجواب سريعاً: تعال لتحمل معي إن أردت الثواب، ذهبت فوجدت الرجل يأتي بكميات كبيرة من علب المياه والطعام ويحملها في مركبته، فسألته عن ذلك فقال: هذه لأسرة تعيش هنا كان والدي يتولاها دائماً وددت أن لا ينقطع الخير عنهم بوفاة والدي، دخلنا المنزل واذا بإمرأة عجوز كبيرة أرملة تعيش مع عدد من الأطفال كان واضحاً أنهم يعرفون صديقي ومعتادين حضوره، والغريب أن صديقي كان يعامل الأرملة بمنتهى الاحترام بغض النظر عن رأيه بها أو بتصرفاتها، فقط لأن والده كان يحترمها ويخفف عنها، فوضع معها مبلغاً من المال قبل مغادرتنا وهي تدعو لوالده بالرحمة والمغفرة، ثم غادرنا حتى وصلنا قرية أخرى كان فيها رجل مسن يستنجد وإلى جانب الطريق مركبته قد تعطلت وأهله بداخلها، وقفنا وسألنا عن الأمر فأخبرنا أن إطار المركبة قد تعطل، فطلبنا منه الإطار الإحتياطي لتغييره فأخبرنا أنه متعطل وحتى أدوات تغيير الإطار متعطلة أيضاً،عندها أخذنا الإطار معنا وذهبنا لتصليحه للرجل في القرية فطلب منا أخذ ابنه معنا وأصر على ذلك فوافقنا، إلا أن الولد بادر بسؤال والده أمامنا: ولكن يا أبي لم تعطني المال الكافي لتصليح الإطار؟ فبدا الاحراج على وجه الأب، وقال أنه نسي أمر المال، فرد صديقي على الولد: اركب الآن بسرعة، وعندما تحركنا سأل صديقي الولد عن عمره فأخبره أنه تجاوز العاشرة بعام، فسأله أين يعمل والده فأخبره أنه مريض لا يعمل، وجعل يتحدث معه أحاديث جانبية حتى وصلنا محل تصليح الاطارات، فطلب صديقي تغيير الاطار باطار جديد، عندها صرخ الولد: لماذا جديد، ليس لدينا مال للجديد، ووالدي طلب تصليحه وليس تغييره، أرجوكم أبي سيذبحني،عندها طلب منه صديقي السكوت وقال له: أنت معنا أمانة حتى نعيدك لوالدك والأمانة لا تتكلم أبداً واحذر فانا عصبي، فسكت الولد، وسأل صديقي العامل عن أمر إلا أن العامل أخبره أنه لا يوجد عنده ويمكن ان يجده داخل القرية، دخلنا القرية بعدها ونحن لا نعلم أين نحن ذاهبين، فوقفنا عند محل زينة مركبات، فدخل صديقي المحل ثم خرج ومعه أدوات رفع المركبات، عندها بادر الولد صديقي بمجرد صعوده للمركبة بسؤال برئ: حتى أنتم أدواتكم غير صالحة؟ فلم يجد إجابة، وكان العامل قد أكمل تركيب الإطار الجديد، فطلب منه صديقي ثلاثة إطارات جديدة لتكون أربعة إطارات جديدة كاملة، فصرخ الولد: يا ويلي سيذبحني والدي، فأجابه صديقي بصرامة شديدة: كم مرة سأقول لك أن تسكت، قلت لك لا تتكلم أبداً، فسكت الولد مجدداً، ثم جاء صديقي وطلب مني بضعة نقود كدين ليكمل ثمن الإطارات، فاعتذرت منه وقلت له: آسف، دين ليس معي، إنما مشاركة لك في الأجر أنا جاهز، قال لي: يا ابن الحلال عيب عليك أعطني النقود كدين، فقلت له: لا لن أداينك هنا بل أريد أن أشاركك الأجر، نظر إلي عندها وقال: يا ابراهيم، هذا المشوار منذ لبسنا فيه ملابس الإحرام للعمرة وقد نويت أن يكتب الله أجره كاملاً لأبي يرحمه الله، يا ابراهيم لماذا تريد أن تستكثر علي أن أبر والدي ولو باطار مركبة، وتستكثر الأجر على والدي رحمه الله، ماهذه القسوة التي لديك، عندها لم أستطع النطق بكلمة وخنقتني العبرة، وقلت له: تفضل هذه النقود ويكفي أنني مشيت معك وحملت بيدي، ثم رجعنا بعدها والولد ساكت لا يجرأ على التكلم بكلمة، إلا أنه تكلم بصوت خافت: ليس لدينا ثمن الإطارات نعطيك إياها؟ فأجابه صديقي: لا عليك فعندما تنهي المدرسة وتتخرج من الجامعة وتأخذ أول راتب تعطني ثمنها، ولو لم تجدني تعطي ثمنها لأمك، ولكن أخبرني هل تصلي أم لا، اذا لا تصلي لن آخذ منك فلساً واحداً؟ فقال الولد: بل أصلي واسأل والدي، فقال له صديقي: اذن اتفقنا، ثم وصلنا لمكان والده فشاهدنا من بعيد وابتسم وجعل يدعو لنا، لكنه عندما شاهدنا ننزل الاطارات الجديدة صرخ في ولده وقال له: أنت مجنون، من أين لنا دفع ثمن كل هذا؟ فقال الولد: والله قلت له يا أبي، ولكنه كان دائماً يقول لي: اسكت أنت امانة والأمانة لا تتكلم وأنا عصبي، فجاءه صديقي وقال له: يا رجل كلنا تحصل معنا ظروف خصوصاً في الطريق، هل تصدق؟ منذ يومين كنت أنا وصديقي في طريقنا للمدينة المنورة وفرغ الوقود من المركبة ولم يكن معنا مالا كافياً لولا أن يسر لنا الله رجل قام بتعبئة الوقود لنا وأعطانا بعض النقود كاحتياط، ثم غادرنا مباشرة فنظرت لصديقي وقلت له: متى ذهبنا للمدينة وفرغ الوقود ولم يكن معنا مال ! فقال لي: يغفر الله لي، ماذا تريديني أن أقول له، هذه صدقة عن والدي رحمه الله ولم أرغب باحراجه أمام عائلته، فقلت له: ولماذا لم تتركنا نركب له الاطارات الجديدة؟ فقال لي: هذه مشكلة أكبر، عندها سيقف يدعو لنا وكل نساءه وأطفاله ينتبهوا لذلك، ونسبب له إحراج كبير أمامهم، نتركهم أفضل ونسأل الله أن يتقبلها منا ويرحم والدي رحمة واسعة.
جاء سائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال يا رسول الله:هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال عليه الصلاة والسلام:((الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما)) رواه أبو داوود وأحمد في مسنده.
ولأجل كل هذا سنبقى نعيش ما حيينا بين ألفين، ليس ألفين مجموع الف وألف، بل ألفين بفتح الهمزة وكسر اللام، ألف أمي وألف أبي، لتبقى أمي ويبقى أبي رحمهما الله فاتحة كل خير في حياتنا، ونور كل ظلمة في طرقاتنا، والأمل المتجدد في كل لحظة من لحظاتنا، ليس قولاً فقط بل وفعلاً يتجدد باذن الله بعد فراقهم كما كان يتجدد في حياتهم مع تجدد أنفاسنا كل يوم، فيكفي أنهم أول من حبسنا أنفاسهم لأجل الإطمئنان على سلامة أول أنفاسنا في هذه الحياة، فستبقى والدتنا زهرة حياتنا التي تتفتح في قلوبنا وعقولنا كل يوم، كما سيبقى والدنا رفيق دربنا وإسمنا وذاكرتنا ما خطونا خطوة للأمام، رحمكما الله وجمعنا معكما في أطيب وأرقى مكان، مع خير وخيرة البشر أجمعين، ولنتذكر والدينا ليس في حياتهم فقط بل وبعد فراقهم، بالدعاء والاستغفار لهم، وتنفيذ وصيتهم، وإكرام أحبابهم وأصدقائهم، وصلة سائر أقربائهم فكما سندين حتماً يوماً سندان.