التعليم العالي في خطر


كنا في العقود الماضية نفاخر بنوعية مخرجاتنا التعليمية , وكانت جامعاتنا الرسمية حينها تعد على اصابع اليد الواحده ولكنها كانت منارات علم بحق , وعلى مستوى متميز من الاداء , وبنوعيه وجوده عاليه , جعلت من هذه الجامعات مقاصد لطالبي العلم من الداخل والخارج .
ونافست حينها , شقيقاتها من الجامعات العريقه في مصر وباقي الدول العربية , بل كانت في بعض الفترات في مقدمتها على مستوى الاداء وتطوير الخطط والتجهيزات والنوعيه المتميزة للاكاديميين العاملين في هذه الجامعات .
وكانت دول الخليج وبعض الدول العربية تتهافت على خريجيها لتميزهم وكفاءتهم العلميه والعملية , وكان خريجيها ممن اكملوا دراساتهم العليا في الخارج الاكثر تميزاً من باقي الطلبه من شتى المعموره .
ورغم الثوره المعرفيه التي اجتاحت عالمنا في السنوات الاخيرة , وتسللت عنوة الى منظومتنا الفكريه والثقافيه والمعرفية , والتي كان من المتوقع ان تؤدي الى تحسين البنى المعرفية لدى ابنائنا , وتجعلهم اكثر قدرة على استيعاب الطفرات المعرفيه بكل اشكالها , في ظل توفر الوسائط المتعدده لتحقيق هذه الغايه .
كان لزاماً على مؤسسات التعليم العالي مجاراة هذا التطور , والبدء في تطوير خططها ورفع جودة اداءاتها , لترتقي بقدرات وامكانات خريجيها لتتوائم مع هذه الطفرات في كل مناحي المعرفه الانسانية , التي باتت تتغير في فترات زمنيه متقاربة .
الا اننا للاسف وبشهادة كثير من قامات التعليم العالي الذي عاصروا عهد النهضه في التعليم العالي في بلدنا , وحتى الجيل الجديد من الاكاديميين , يؤكدون هبوط مستوى واداء ونوعية التعليم العالي في بلدنا , مما انعكس بطبيعة الحال سلباً على منتجنا التعليمي المتمثل بنوعية خريجينا وتدني مستواياتهم التحصيليه لاسباب عدة :
اولاً : زيادة اعداد الطلبه الملتحقين في الجامعات ( وانا اتحدث عن الجامعات الرسمية ) وباعداد اعلى من الطاقه الاستيعابية الفعليه لهذه الجامعات , مما ترتب عليه زج الطلبة في قاعات وصل معدل العدد فيها الى ما يزيد على الخمسين طالباً , وفي الغالب يصل العدد الى المئه واكثر , حتى وصل الامر في بعض الجامعات ان يزيد عدد الطلبة على عدد المقاعد المخصصة في القاعة , ناهيك عن القدره الاستيعابيه للمختبرات والمرافق التعليميه الاخرى .
وفي الغالب القاعات غير مجهزه بالتكيف ولا بأجهزة الصوت او( الداتا شوا والالواح الذكيه) او الوسائط الضرورية للمحاضرة , وهذا انعكس سلباً على جودة اداء المحاضر وقدرته على التواصل مع طلبته وتقديم ما لديه بالشكل الامثل
علماً ان المعيار العالمي , ينص بان لا يزيد عدد الطلبه في قاعة الدرس في الجامعات العريقة على ثلاثين طالباً .
ثانيًا : فتح برامج الموازي , والتي ادت لقبول معدلات متدنيه والحاقهم بتخصصات تتطلب مستوى تحصيلي اعلى للمنافسه مع من قبلوا في البرنامج العادي , مما انعكس سلباً على النوعيه وقتل روح التنافسيه بين الطلبه , وادى الى زيادة اعداد الطلبه على حساب الطاقه الاستيعابيه الفعليه للجامعات .
ثالثاً : اقحام الطلبه ذوو المعدلات المتدنيه في بعض التخصصات الادبيه والتعليميه التي لا تحظى بأقبال الطلبه عليها , مما انعكس سلباً على مستوى ونوعية هذه التخصصات رغم اهميتها لسوق العمل وخاصة التخصصات التعليمية .
رابعاً : هجرة كثير من الكفاءات الاكاديميه من اعضاء الهيئة التدريسية طلباً لتحسين الوضع المادي , والذي تأكل نتيجة تدني الرواتب , وعدم تحسينها بالشكل المطلوب , رغم الدخول العاليه المتحققه من رفع رسوم الساعات المعتمده وبرنامج الموازي , مما انعكس سلباً على نفسية المدرسين وبالتالي نوعية وجودة التعليم .
خامساً : تآكل البنية التحتيه لكثير من الجامعات الرسمية العريقة , والتي باتت تتطلب تجهيزات حديثه لمختبراتها وقاعاتها الهرمه وكذلك خططها وبرامجها , وقبول اعداد كبيرة من الطلبه رغم شح امكانيات هذه الجامعات .
سادساً : التوزيع الحغرافي غير المدروس لمواقع بعض الجامعات , وخاصة في الجنوب , مما جعل منها جامعات طارده تأن من عدم الاقبال عليها لبعدها عن اماكن الزخم السكاني , وعدم استقرار الطلبة الذين قبلوا فيها وسعيهم للانتقال منها بأسرع وقت , في ظل غياب استراتيجيات التعليم العالي لوضع حلول لهذ المشكلة , في احياء هذه الجامعات ورفع سويتها ورفدها بتخصصات , خاصة بها , تستقطب الطلبة , وتجعلهم اكثر استقراراً وارتباطاً وانتماء ً لجامعاتهم , حتى وصل الامر ان دخول هذه الجامعات لا تغطي نفقاتها لقلة عدد الطلبه فيها .
سابعاً : غياب دور البحث العلمي في التطوير في كافة المناحي , لنقص الدعم وشح المخصصات , وعدم وجود تشجيع وتحفيز للابحاث الجاده . حيث بات هدف البحث الترقيه لا غير .
والمطلوب تعزيز دور البحث العلمي في الجامعات الرسمية , وزيادة المخصصات الماليه لهذه الغاية , وتوجيه الباحثين لابحاث تخدم قطاعات الوطن في كل المناحي , وتحت رعاية لجنة بحثيه عليا تشكلها وزارة التعليم العالي بالتعاون مع عمادات البحث العلمي في الجامعات , والوزارات المعنيه , واخص وزارة التخطيط ووزارة تطوير القطاع العام .
ثامناً : اعتقد ان من اسباب تدني مستوى التعليم العالي , غياب الدور الحقيقي الضابط لوزارة التعليم العالي لمسيرة التعليم العالي , والمراقبة الفعلية على اداءات الجامعات , وجودة التعليم فيها , ومتابعة تحقيق الجامعات للاعتماد العام والخاص , وتقليص بعض التخصصات التي لم تعد تخدم السوق وتؤدي الى بطالة خريجيها , مما يشكل هدراً للمال والوقت , وعدم السماح بفتح تخصصات ادبية في جامعات تطبيقيه , وتخصصات تطبيقيه في جامعات غير مهيأة لذلك .
والعمل على متابعة الخطط التدريسية في الجامعات بما يتوائم مع التطور العالمي ويتماشى مع سوق العمل , والعمل على توحيد الخطط للتخصصات المتشابهة في الجامعات , مما يسهل على الطلبه في حال الانتقال من جامعة لاخرى اعتماد المواد المتشابهة التي درسوها , ووضع سقوف اعلى لمعدلات القبول في بعض التخصصات , واعتماد امتحانات قبول لبعض التخصصات التي تحتاج لقدرات وامكانات خاصة غير نتيجة الثانوية العامة .
تاسعاً : غياب الدور الحقيقي لمجالس الامناء , والذين هم في الغالب للاسف ينضوون تحت مظلة الرؤساء , رغم الصلاحيات التي منحت لهم في الرقابه والتوجيه المالي والاداري للجامعات التي اؤتمنوا على مجالسها .
عاشراً : ضعف ادارات بعض الجامعات , والتخبط في القرارات للبعض منهم , نتيجة التدخلات من الخارج والداخل وتعدد المرجعيات , وعدم وجود الكفاءة والخبرة الادارية للبعض , لادارة دفة الجامعات التي يرأسونها , مما انعكس سلباً على اداء الجامعات اكاديمياً وادارياً .
وهذا يتطلب من مجلس التعليم العالي تقييم الاداء للرؤساء فصلياً اوسنوياً , من خلال معايير شفافه وحقيقة , ومتابعة جاده من خلال استقراء اراء المدرسين والعاملين وحتى الطلبة في هذه الجامعات .
وان يتم اختيار الكفاءات العلمية والقيادية لرئاسة الجامعات , وبتنافسية من خلال الاعلان لاشغال هذه المراكز الهامة , كما هو معمول به في الجامعات العالمية العريقة , وليس كما هو معمول به عندنا , لان الادارة الناجحة تلعب الدور الاكبر في تميز الجامعة ادارياً واكاديمياً .
وعندما تحدثت عن تميز جامعاتنا في العقود السابقة , كان لرؤساء الجامعات الدور الابرز في تميز هذه الجامعات .
حادي عشر : ارتفاع وتيرة العنف في الجامعات وتكرار المشاجرات والانتهاكات لحرمة الحرم الجامعي , فيما بات يسمى بالعنف الجامعي , مما اثر سلباً على سيرورة العملية التدريسيه ونوعيتها , وهذا في نظري عائد لقبول طلبه من معدلات متدنيه واقحامهم في تخصصات غير متوافقه مع رغباتهم وامكاناتهم المتواضعة , كذلك ضعف اداءات عمادات شؤون الطلبه في رعاية ومتابعة هؤلاء , وغياب الانشطة المصاحبة ( اللامنهجية ) في اشغال اوقات فراغ الطلبه واستثمار قدراتهم , وغياب دور الاباء في متابعة ابنائهم في الجامعات .
ثاني عشر : اعتقد ان ايقاف الدعم المالي للجامعات الرسمية , انعكس سلباً على اداءاتها , وحرف توجهات اداراتها بأتجاه جباية الاموال لتغطية نفقاتها ودر الارباح , شأنها شأن الجامعات الخاصة , ( والتي سأتطرق لها بمقالتي القادمه بحول الله ), وبات الرؤساء , يجدون ويجتهدون ليس في تطوير نوعية التعليم , بل بفتح تخصصات تدر دخلاً على جامعاتهم , وابتداع كل ما يحقق وفراً مالياً , ويتنافسون فيما بينهم بالاعتماد الذاتي على مواردهم , وهذا كله يدفع ثمنه اولياء الامور الذين باتوا يئنون من هذا الحال التي لا ترضي احد .
وفي الجعبة الكثير من الهم والخوف والخشية على مسيرتنا التعليمية , من الانحدار الى شفير الهاوية , والتي باتت في ظل التخبط وغياب القرارات الصحيحة , وعدم التصويب , وتفرد بعض الرؤساء بقراراتهم الخاطئة , عرضة لذلك . د. نزار شموط