كان الله في عون الأطفال في المدرسة

إذا لم يكن التعليم بهيجاً ومدهشا، والمدرسة مختبراً ومبتَكراً ومشغلاً وأنشطة، فإنها سرعان ما تتحول إلى ما يشبه مركز اعتقال نهاري للأطفال، الذين يقضون وقتهم يكافحون لاختراقه والتحرر منه.
لقد بينت نتائج حديثة لدراسة ذات علاقة، نُشرت في العدد الأخير من مجلة "عِلم" (Science)، ثم في الصحف، أن الأطفال يندهشون، فينتبهون، عندما يشاهدون شيئاً مثيراً. بينما يكونون أقل رغبة، وربما يصبحون بلداء، عندما يشاهدون حدثاً متوقعاً أو خالياً من الإثارة أو الفضول. وأنهم يستخدمون الأحداث المثيرة كفرص للتعلم. وأضافت الباحثة إيمي شتال، من جامعة جونز هوبكنز، في الولايات المتحدة الأميركية، قائلة: إن الأطفال ذوو قدرة بارعة على التعلم منذ تفتح حواسهم. وبوسعهم التعرف على العالم من خلال الملاحظة والاستقراء.
إن لهذه النتائج معنى ومغزى، ومن ذلك أن تحويل المناهج والكتب إلى أكوام من المعلومات ليتعلمها الأطفال سنة بعد أخرى، يلغي متعة الإثارة منها، فلا تجعل الأطفال يندهشون ويتعلمون بالفعل، بل العكس، لأنها مجرد معلومات ميتة، يُطلب منهم حفظها وتذكرها في الامتحان، ثم نسيانها مع الوقت.
ما لم تتحول المعلومات إلى معارف لصيقة بالمتعلم، فلا قيمة لها عنده، وبخاصة في هذا العصر الذي يمكن فيه للطفل، وليس للراشد فقط، وبوساطة لمسة بالأصبع لسطح صغير، الحصول على المعلومة فوراً، في أي زمان ومكان. ولن تتحول المعلومات إلى معارف، إلا بالأنشطة المدرسية والملاحظة والاستقراء، والتجارب المخبرية والمشغلية، والبحوث التي يستطيع كل طفل إجراءها بمقدارها في مرحلته العمرية.
وقد أثبت المرحوم الأستاذ العالم الدكتور عبدالعزيز القوصي ذلك بتجربة على أطفال روضة، جعلهم يحسبون كمية بيض كل دجاجة يوماً بعد يوم على شكل رسم بياني، ويدركون من مجرد النظر إليه أن الدجاجة السوداء -مثلاً - باضت أكثر من الدجاجة البيضاء.. وهكذا.
عندما تصبح الامتحانات التذكيرية الاسترجاعية اللحظية، هي الوسيلة والهدف، تصبح المدرسة سجناً أيضاً، يتمنى كل طفل/ تلميذ الخروج السريع منه، إلى الفضاء الواسع. والأطفال في أثناء "الحبس" فيه لا يتعلمون سوى الغش والعنف والتآمر.. ولا يسيطر على المدرسة والأسرة والمجتمع في هذه الحالة سوى حالات الطوارئ والتوتر والميل للعنف.
لتطلق المدرسة خيال الأطفال إلى الأعالي، وتدفعهم إلى التعلم الدائم، فإنه يجب أن يكون التعليم بهيجاً ومثيراً. وهو لا يكون كذلك إلا إذا كان حراً ومفتوحاً على الحياة، أو فيه كوات يتنفس من خلالها الطفل والمعلم، أي خارج الصندوق، وهو ما لا تستطيع الامتحانات التذكرية الاسترجاعية اللحظية تحقيقه، بل العكس؛ إنها تقبره.
إن المراقب الناقد يحزن عندما يقرأ كل يوم عن الذكاء الاصطناعي؛ ذكاء المصعد أو الثلاجة أو الغسالة أو السيارة.. وتطور هذا الذكاء عندها، بينما تعطل الامتحانات المركزية والبيئة المدرسية الخانقة نمو ذكاء الأطفال وإمكاناتهم، وتجعلهم يرسبون أو يتسربون، مع أنهم التحقوا بالمدرسة وقد تعلموا من الأسرة والمجتمع لغة قومهم مهما كانت صعبة، وكثيراً من المهارات الشخصية والاجتماعية مهما كانت معقدة. بل إنهم أمهر من ذويهم ومن معلميهم ومعلماتهم في التعامل مع التكنولوجيا المعاصرة القائمة على الذكاء.
إن قابلية الذكاء للنمو محدودة بالحدود البيئية الأسرية والمدرسية والاجتماعية والاقتصادية، أفلا يعقل ذلك ورثة نظرية الذكاء العنصرية الفطرية التي توزعه عرقياً أو طبقياً إلى اليوم؟!
في الماضي، كان يُحكم على الطفل بالغباء لكثرة أسئلته وحركته، ولما يبدو أنه استفزاز للمعلم أو المعلمة، لدرجةٍ جعلت أعظم المخترعين بالتاريخ، وهو توماس أديسون، يبدو غبياً. أما الآن، وفي نظم التعليم المتخلفة القائمة على التلقين، فإن مثل هذا الطفل يُعتبر مزعجاً أو مشاغباً لأنه يحرج معلميه، ضمن هذه النظم، بأسئلته وحركته، فلا يستطيعون الإجابة عنها أو السيطرة عليه. فيما في نظم التربية الراقية، كما في شمال أوروبا، فإنهم يعتبرون كل طفل فريدا وله ذكاءٌ خاص يتفوق فيه، وأن المطلوب إعطاء الطفل فرصة لإطلاق هذا الذكاء، ثم تحديه به بعد ذلك، باختبار لقياس مدى فاعلية التعليم، وليس لإدانة الطفل أو المتعلم.