أربعينية فيتنام أو عندما.. هُزِمَتْ أميركا

الثلاثون من نيسان الماضي صادف الذكرى الاربعين لتوحيد فيتنام وشطب اسم العاصمة الفيتنامية (الجنوبية) سايغون، كي تصبح هوتشي منه، تخليداً لذكرى الزعيم الفيتنامي النحيل والمتقشف لكن الشجاع والأمين على مصالح شعبه والحازم في رفض العدوان والغطرسة والتبعية والذي لم يُصِبه اليأس او يستبد به الخوف من تهديدات القوة الاميركية الباطشة، مصمماً على إعادة اللحمة للشعب الفيتنامي الواحد، الذي قسّمه المستعمرون من فرنسيين ويابانيين وخصوصاً الاميركيين، واستخدموا لذلك دمى وقتلة من جنرالات الجيش الفاسدين والقتلة والمهووسين جنسياً، وكان لهذا الشعب العظيم ما أراد، فتحرر والحق هزيمة مدوية بالامبراطورية الاميركية، التي لم تستطع كسر ارادة الشعب الفيتنامي او شراء قيادته او ضبطها بالصورة والصوت في اوضاع مُخلّة بالشرف او حسابات مصرفية مُتضخمة او سهرات في مرابع اللهو والمجون في نوادي تل ابيب وهرتسليا وناتانيا الليلية، ولم تكن ايضاً مُحادثات باريس بين «لي دوك تو» وهنري كيسينجر، شبيهة بتلك التي تمت في كامب ديفيد بين انور السادات ومناحيم بيغن، كذلك لم تشبه للحظة، تلك المباحثات السرّية (اقرأ الانبطاحية) التي جرت في غابات اوسلو ومنتجعاتها والتي أثمرت اتفاقاً كان ولم يزل بمرتبة النكبة الثانية التي لحقت بالشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية، وخصوصاً اراضيه التي سوّغها اوسلو، كي تصبح كتلاً استيطانية يقولون لنا انه سيتم الحاقها باسرائيل مع تبادل في الاراضي، لا يعلم إلاّ الله - والاسرائيليون وحدهم - بأي نسبة ستكون وما هي نسبة السمسرة التي سيتقاضاها المفاوضون او الموقِعون او المسهِلون او المُطيِبون.
ما علينا..
مضت الذكرى الاربعون لهزيمة الولايات المتحدة «الكبرى» التي الحقها بها الفيتناميون، رغم جبروت آلة القتل خاصتها وحداثة ترساناتها ووحشية قصفها الذي كان «الكيماوي الأصفر» هو الأبرز في وقائعها واحداثها، ظناً منها - لفرط سذاجتها ووقاحتها - أنها بتعرية اشجار الغابات الفيتنامية وتسميم مياه الشرب وإبادة القرى الفيتنامية، ستكون قادرة على كشف معاقل الفيتكونغ وتجفيف البنية الشعبية الحاضنة وارغام هانوي (عاصمة فيتنام الشمالية) على وقف دعمها لابناء شعبها في الجنوب، فلم تحصد سوى الخيبة، وكان أن وَجَدَتْ في مفاوضات باريس «سترة النجاة» التي انقذتها من الغرق في مستنقعات فيتنام، بعد كل ما تكبدته من خسائر فادحة في الارواح وهبوط في معنويات جنودها وخصوصاً جنرالاتها، الذين ولغوا كثيراً وطويلاً في الدم الفيتنامي وكان ان انتصر الدم الفيتنامي على السيف الاميركي.
مشهد الطائرة المروحية فوق سطح السفارة الاميركية في سايغون التي هرب بها السفير الاميركي والحبل المتدلي الذي انزلته، كي يصعد مَنْ يُسْعِفه الحظ قبل ان تطير بغير رجعة الى القواعد الاميركية في الفيلبين او على ظهر حاملات الطائرات الاميركية, لم يغب عن ذاكرة شعوب العالم اجمع, وكان - ربما - احد اكثر المشاهد اثارة في احداث القرن العشرين الدموية, التي بدأت بحرب عالمية اولى وانهيار الامبراطورية العثمانية لاحقاً, ثم طوت اشرعتها بانتهاء الحرب الباردة قبل ان تحصد الحرب العالمية الثانية ارواح عشرات الملايين من الاوروبيين وخصوصاً من السوفييت اضافة الى اليابانيين وبعض شعوب العالم الثالث الذين ساقهم المستعمرون لقتال دول المحور خدمة لمصالحهم.
المهم..
مرت اربعينية الانتصار الفيتنامي العظيم أو الهزيمة الاميركية المُذلّة, دون ضجة ودون اي احتفالات تُذْكر، لأن المنتصرين ما زالوا يعيدون بناء ما دمره الامبرياليون ولأن الاعلام الغربي المنافق لا يقيم وزناً الا لانتصاراته المُشْبَعةِ بالزيف والبروباغندا والادعاء, ما بالك ان المنتصرين هم من الشعوب الأكثر فقراً في العالم, رغم كبريائهم الوطني الانيق ورغم تحولهم الى ايقونة وامثولة في النضال الشعبي والتضحية بسخاء من اجل تحرير الاوطان وهزيمة المستعمِرين, ما بالك ان الاخطبوط الاميركي بالغ الدهاء والوضاعة، التف كالافعى ومن جديد على فيتنام وألحقها بمنظمة التجارة العالمية واحتكر التجارة معها والاستثمار فيها، دافعاً اياها الى تبني اقتصاد السوق والالتزام بمعايير المنافسة القائمة في الاساس على ازالة الحدود الجغرافية واتاحة الفرصة لتدفق رؤوس الاموال والبضائع التي لا توفرها بالطبع الا الاحتكارات الرأسمالية الغربية والقادرة على تحويل الانتصار الفيتنامي في النهاية الى حدث تاريخي «مضى», لأن مجتمعاً رأسمالياً صرفاً بكل مساوئه وامراضه قد نشأ في هذا البلد الاشتراكي الذي ما يزال يحكمه ولو إسمياً الحزب الشيوعي الفيتنامي الذي قاد معركة النصر على الامبريالية الاميركية.
هل قلنا حدث تاريخي مضى؟
يصعب شطب وقائع التاريخ او العبث بها عبر اعادة كتابتها من جديد, على النحو الذي يواصل عرب اليوم العمل عليه تزويراً وخداعاً, وعلينا ان لا ننسىى تلك العبارة الفياضة بمشاعر الهزيمة والتي اطلقها جورج بوش «الاب» غداة انتصار قوات التحالف الثلاثيني على الجيش العراقي في حرب تحرير الكويت عام 1991: «.. لقد دفنّا عار فيتنام في الصحراء العربية».
هكذا اذاً.. ثأر الاميركيون لهزيمتهم ليس من الفيتناميين الذين اذاقوهم مرّ الهزيمة بل من العرب الذين ما زالوا حتى اللحظة، يقرأون في كتب الماضي المكتوبة بحبر الكذب والتزوير والمبالغة.