منجم الشائعات !

حين كتب التشيكي كونديرا مقالته الشهيرة بعنوان كثافة الدولة وشفافية الفرد كان يقصد ما هو ابعد من الدلالة المباشرة لهذه العبارة، لأنه وريث حقبة من البيروقراطية الفولاذية وله دراية بشعاب النظم الشمولية، حيث الفرد مطالب بالشفافية الى اقصى حد، وحياته عبارة عن سلسلة من الاستمارات التي تظهر حتى نخاعه وليس فقط حياته الخاصة ومجمل علاقاته مقابل هذه الشفافية المطلوبة من الافراد، ثمة اسوار تعلو حول المؤسسة الرسمية، وبالطبع هناك العديد من الذرائع التي تقدم لتبرير هذه الكثافة والسريّة رغم ان النظم التوتالية او الشمولية لا تحتاج الى اية ذرائع، لأنها تتصرف بوصاية كاملة على المجتمع كله، ولا تسمح ببلوغ سن الرشد لأي فرد ما دام هناك من يفكر له ونيابة عنه ويحلم باسمه حتى لو كان آخر من يعلم .
هذه الكثافة المضادة للشفافية هي منجم نموذحي للشائعات وتتيح للخيال الشعبي ان يذهب بعيدا في تداول حكايات وروايات قد لا تكون ذات جذر واقعي الا بالقدر الذي يقيس به الناس حاضرهم على ماضيهم واللاحق على السابق من الاحداث .
واذا كان غياب المعلومة بالنسبة للنخبة يؤدي بالضرورة الى الافراط في التأويل والاستنتاج كبديل، فإن غياب الوضوح حول اي موقف يتناوله الاعلام بشكل مجرد ومن مقتربات تصلح لكل زمان ومكان ينتج الشائعة ومن ثم يغذيها من خلال التداول، وتبعا لما يقوله علماء النفس والاجتماع، فإن خبرا واحدا يبثه فرد واحد يصبح بعد تداول عشرة اشخاص له عدة روايات يتعدد ابطالها وذلك لأن هذه فرصة ذهبية لخيال لا يمارس دوره بالتحليق ابداعيا، بل يحتال على الواقع بحيث يعيد انتاجه بشكل اسقاطي ورغائبي، فهو يريد ان يرى ما يود رؤيته فقط .
والعالم العربي شهد موجات عارمة من الشائعات خلال العقود الماضية بحيث اصبح من العسير الفرز بين ما هو واقعي وما هو من صنع الخيال لأن الخبر حين يكون شبه جملة كما يسميه اهل البلاغة يتيح لمن يسمعه ان يكمله تبعا لتصوره وما يرغب فيه .
الشفافية المفروضة على الافراد جعلتهم مكشوفين وبلا اسرار، والكثافة المفروضة على المؤسسة ليست كذلك، مما يتيح لثقافة الاشاعة والنّميمة ان تزدهر !

 

 

- See more at: http://www.addustour.com/17569/%D9%85%D9%86%D8%AC%D9%85+%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D8%A6%D8%B9%D8%A7%D8%AA+%21.html#sthash.RH2vwJsb.dpuf