بعيدا عن محاضر الجلسات

في كل يوم، نصادف في الفضاءات العامة والخاصة، العشرات من الأشخاص الذين نعرفهم ولا نعرفهم. وفي كثير من الأحيان، نمر بهؤلاء الناس من دون توقف أو ملاحظة. وقد تتلاقى العيون، فنتبادل التحية. وفي أحيان أخرى، نُستدرج إلى حديث في العمق، يتجاوز المسافات والمقدمات، وبانفتاح لا تشوبه حسابات الخصوصية والتحقق، وبشكل يعكس حاجة الأفراد إلى "الفضفضة" والتنفيس والتفاعل خارج حدود الأجندة وقواعد التواصل والتعارف التي يحرص عليها الرسميون، وغيرهم ممن يسترشدون في تفاعلهم بقواعد اللياقة، وأصول وتقاليد التعارف والمحادثة وطقوسها.
في ثقافات الأمم الصناعية، يُقبل الأفراد على تنفيذ الخطط التي وضعوها لحياتهم العملية والاجتماعية، برتابة وانتظام لا يسمحان بتدخل الصدفة. في مثل هذه البيئات، يحتفظ الفرد بعدد محدود من الأصدقاء، يتفاعل معهم بكثافة أعلى من الغير، ويقيم علاقات أقل دفئا وحميمية مع الرفاق والأعضاء في النوادي والجمعيات التي ينتمي إليها.
في كل الأحوال، يحترم الأفراد خصوصية أصدقائهم ورفاقهم؛ فلا أسئلة، ولا تحقيق، ولا جمع بيانات أو اختراق للخصوصية وتدخل في خيارات الأفراد. فالحرية الفردية مصونة ومحمية من كل التدخلات؛ يحترمها الجميع، ولا يسمحون لأنفسهم أو لأصدقائهم بتجاوز حرمتها.
أما في مجتمعاتنا، فهناك اهتمام علني وخفي من قبل الأفراد بكل الأشخاص الواقعين في محيطهم؛ نسأل عن أسمائهم وآبائهم وتعليمهم وعائلاتهم وسلوكهم اليوم وفي السنوات التي مضت، كما نتنبأ كيف سيكونون في قادم الأيام.. نعرف ثرواتهم وأصولها وتوزيعها، وأسماء الأولاد وأزواج البنات وأكلاتهم المفضلة.. ونبحث عن علاقاتهم بأخوالهم وأنسبائهم.
في كل زاوية حي، وعند ناصية كل شارع، هناك خبير أو أكثر في جمع القصص والروايات عن الناس، يلجأ البعض لسؤالهم عن الأسر وواقعها. والمباحث يستفيدون من خبرات هؤلاء المعرفين، وكذلك الخُطّاب والأسر التي تبحث عن سيرة المتقدمين لخطبة بناتها، أو العرائس المحتملات للأبناء.
بشكل عام، معظم الناس في مجتمعنا لا يحبذون المحادثات القصيرة والعابرة؛ فإما أن يحييك الشخص ليتعرف عليك أصلا وفصلا، بعد أن يمسك بفرع من فروع شجرة العائلة ويبدأ رحلة التقصي، أو أنه يتجاهلك تماما لأن فضوله لا يحتمل أن يلقي التحية على شخص ابتسم له من دون أن يمارس برنامجه المكثف في البحث والتحري.
الكثير من أبناء المدن الذين احترفوا ترؤس جاهات الخطوبة، أدركوا أهمية التأصيل، فأصبحوا يطالعون كتب العشائر والملل والنحل، ومخطوطات الرحالة، علهم يقتبسون منها بعض المقدمات التي توحي بسعة اطلاعهم ومعرفتهم وتواضعهم وصلاحيتهم لقيادة الناس، وتولي دفة الإدارة للدولة والأعمال والتشريع. في المقابل، أصبح الناس يهيئون بياناتهم بالشكل الذي يجعلهم أكثر قبولا وتلاؤماً مع الوضع الراهن ولاعبيه.
بعض الأسر، إن لم تكن غالبيتها، تحتفظ بروايتين أو أكثر عن أصولها وامتداداتها وبطولاتها، فتقرب البعيد المهم لها، وتستبعد المسيء من شجرة نسبها، بأساليب مختلفة ولدرجة تشعرك بأنك تعيش في مجتمع تحت التأسيس.
أحد الأشخاص الذي يتولى موقعا مهما في إدارة موارد المجتمع، يحمل اسما يختلف عن الأسماء التي يحملها أبناؤه، ولا أعرف ما إذا كان ذلك قد جاء صدفة، أو أنه من باب تطبيق مبدأ تنويع مصادر الدخل على الأسماء.
الأردنيون لم يتدربوا على المحادثة الخفيفة والقصيرة، ولا يجدون أهمية لها. فالحديث الذي لا يحمل شحنة انفعالية، هو حديث غير مثير ولا يستحق أن يستمع له. ولهذا، يبالغ الناس عموماً في الجلسات العامة في تأصيل ما يقولون من آراء وملاحظات عابرة. فالبعض يدّعي أن ما يقول مهم للغاية، استقاه من مصادر مطلعة وموثوقة. والبعض يبالغ في التعبير عن تشدده والتزامه بما يقول لدرجة التطرف. وفي حالات عديدة، قد يبتدع الأشخاص أرقاما وتواريخ وأسماء لـ"يبهّروا" بها رواياتهم التي بدأت كحديث عابر غير مهم، في محاولة لإضفاء الأهمية واختطاف اهتمام السامعين.
المعلومات التي يقدمها الشخص عن الطقس مثلاً، تصحح من قبل السامعين مرارا، في محاولة لبرهنة أن المصحح مطلع ودقيق ومهم. وفي كثير من الحالات، وبعد أن يقرر الأشخاص الجالسون تراتبية مكاناتهم، يتحول الأعلى مرتبة إلى "معلم"، والبقية إلى "تلاميذ" يحبسون أنفاسهم خلال الاستماع إلى حصة مملة، وحديث أحادي يحدد المعلم موضوعه ومحتواه، والزمن اللازم لإنهائه.
ثقافتنا لا تجيد الاستماع، ولا إتاحة الفرص للجميع ليتفاعلوا في أجواء تحترم فيها الآراء. فهي ثقافة كانت وما تزال ترى العالم وفضاءاته عالما من الأساتذة والتلاميذ؛ من الشراح والمستمعين؛ من الملقنين والسامعين.