التجديد الديني من داخل المؤسسة أم من خارجها؟

في المعركة الأخيرة التي بدا فيها الأزهر منتصراً على واحد من خصومه الشباب، ومن قبلها، تتكرر عبارةٌ مفادها أن من يُجدّد الخطاب الدينيّ هم أهل الاختصاص فقط، أي الأزهر والمشايخ من خريجيه. ومع العلم أن الأزهر حتى الآن لم يُعلن خطته لمعالجة ما في كتب التراث من كوارث ضد الإنسانية، ولا عن نيّته تخليص المناهج في مؤسساته التعليمية من كل ما يحض على العنف والكراهية، وصمتَ صمتاً مريباً من موضوع تجديد الخطاب الديني الذي يغرق في الظلامية، فإنه برى سيفه في مواجهة بعض من رفع عقيرته مؤخراً في نقد الأزهر، ونقد المراجع الكبرى في الفقه الإسلامي. وهذا بصريح العبارة دليلٌ لا تخطئه عين صبيّ على أن الأزهر متمترسٌ خلف نفسه، لا ينوي تحديثاً، ولا في باله العكوف على مشكلة العنف والإرهاب والمساهمة في حلها من الجذور. بل إنه اكتفى حتى الآن بإصدار التصريحات ضد الإرهاب، شأنه في ذلك شأن الأنظمة العربية كلها التي تقاوم الإرهابيين لا الإرهاب. بمعنى أن الجهود العربية، والدولية معها، تنصبّ فقط على محاربة الإرهابيين حيثما أوجعوا. وأن محاربة الإرهاب، والتي منها، لا تجديد الخطاب الديني فحسب، بل تثوير الفكر النّقدي الذي يتناول بلا حرج جميع كتب التراث وأفكاره، هذه المحاربة لا تتم إلا بوضوح الرؤية وتماسك الرؤيا لمعالجة المشكلة من أصل وجودها، وأهمها مناهج التربية والتعليم ومؤسسة الوعظ والإرشاد.
وعودة إلى أن مهمة التجديد ونقد التراث التي يقصرُها الأزهرُ ومن يحمل عقليّته على أهل الاختصاص من علماء الشرع، نشير إلى مسألة ليس فيها أي غموض، وهي أن أهل الاختصاص هؤلاء، في غالبيتهم العظمى، هم الكارثة الحقيقية الذين ألّفوا في غيبوبة العقل الناقد التراث المعتلّ وقدّموا إسلاماً عنيفاً ومستبدّاً، بعيداً عن الإسلام الرحيم اللطيف الذي نعرفه. وعلينا أن نستعرض تاريخ المشايخ المستنيرين الذين تنكّرت لهم المؤسسة الدينية عندما خرجوا عن خطّها في الاتّباع والتقليد، وحاولوا تقديم قراءة مختلفة للإسلام! ومن هؤلاء الشيخ علي عبدالرازق (الإسلام وأصول الحكم)، وطه حسين (في الشعر الجاهليّ)، والطاهر حداد (امرأتنا في الشريعة والمجتمع)، والشيخ محمود شلتوت (في توجّهه لإصلاح الأزهر)، والشيخ مصطفى الزرقاء (في بعض اجتهاداته في الفائدة البنكيّة)، وجمال البنا، وحتى الشيخ الأزهري علي جمعة لم يسلم من هزء ومن مسخرة... ناهيك عن القتل وهدر الدم أو العنت الذي واجهه غيرهم من خريجي المعاهد الزمنيّة؛ نصر حامد أبو زيد، صادق جلال العظم، سيد القمني، مهدي عامل، فرج فودة، لويس عوض، جورجي زيدان، حسن حنفي، نوال السعداوي... وغيرهم. ولن ننسى معاقبة أهل الأدب في كتاباتهم الإبداعيّة؛ نجيب محفوظ، ليلى بعلبكي، حلمي سالم، حيدر حيدر، أحمد الشهاوي، أحمد عبدالمعطي حجازي، إبراهيم عيسى، رشيد بو جدرة، موسى حوامدة، إسلام سمحان... وغيرهم كثير.
وفي معارك الأصوليين والتقليديين ضدّ كل تجديد تُستعمل مفردات كبيرة خاوية من أي معنى سوى اشتمالها على التهديد والوعيد، من مثل العبارات القاسية التي استخدمها الأزهر في بيانه ضد البرامج التلفازية التي تقدم قراءة ناقدة للأزهر والتراث الذي يتبعه، حيث اتّهم مخالفيه بـ"التحريض وإثارة الفتنة الطائفيّة، وتشويه الدين، والمساس بثوابت الأمة، والتّشكيك فيما هو معلومٌ من الدين بالضرورة، وتعريض فكر شباب الأمة للتّضليل والانحراف، ومناهضة السلم المجتمعيّ والأمن الفكريّ والإنسانيّ" انتهى.
بعبارة أخرى، فإن التجديد الديني لن يخرج من تحت عباءة المؤسسة الدينية، وإذا خرج، كالأمثلة أعلاه، فسرعان ما سيُصادر ويُحارب وتُحرق كتبه وتُسحب منه شهادة المعهد الديني، كالطاهر حداد الذي مات مطروداً فقيراً ممنوعاً، ولم يُردّ إليه الاعتبار إلا منذ سنوات.
إذن، فالأمل بتجديد الدين لن يكون فعالاً، في رأيي، إلا إذا أتى من خارج المؤسسة، ولذلك شروطٌ سأذكرها في المقال القادم.
دعونا لا نفقد الأمل...!