فاصل كوميدي

كنتُ أشاهد مصادفة التلفزيون الأردني، فسمعت العجب العجاب في جلسة لمجلس النواب الكريم، كان يناقش خلالها "تعريف اللغة العربية"!
النقاش كان سريالياً بامتياز، وشارك فيه نواب كثيرون بحماسة كبيرة واندفاع ينمان عن "الروح القومية العالية" التي دبَّت في خطاب السادة النواب الكرام، وهم يناقشون قانوناً للدفاع عن اللغة العربية!
سمعتُ كلاماً كثيراً لم يخل بالطبع من الأخطاء اللغوية والصياغية. ولكنّ الصدمة لم تكن هنا؛ أقصد في الأخطاء اللغوية حين نناقش "قانونا لحماية اللغة"، ولكن في التوقيت والموضوع؛ الذي هو آخر ما يتوقعه المواطن من مجلس نواب عربي في هذه السنوات العجاف التي تمرُّ فيها الأمة العربية بتحديات تتهدد وجودها برمَّته، وليس لغتها فحسب!
كان الحديث مثل مديح لملابس القتلى، أو اختلاف على شاهدة القبر فيما الميت مسجّى بانتظار الغسل!
لستُ أقّلل هنا من أهمية حماية اللغة، وصونها، والدفاع عنها كمكون رئيس من مكونات الهويّة، لكن النقاش كان ساذجاً وركيكاً وأحسسته يدور في مسلسل تاريخي عمره خمسمائة سنة!
فمن التعريفات الساذجة التي طرحت تحت القبة أن "اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم والأدب"، وهو ما يعني بداهة أن اللغة العربية وضعها القرآن. وهذا خطأ كبير وفضيحة في التعريف. فالقرآن الكريم جاء بلغة الأمة تكريماً لبلاغة هذه اللغة، ولم يجئ ومعه اللغة!
ولم أفهم كل هذا اللغو والنقاش العقيم لتعريف اللغة، وكان كافيا ما اقترحه أحد النواب بأن تكون العبارة فقط "اللغة العربية هي لغة الدولة ويلزم الجميع باستعمالها"، من دون تطويل ومناقشات وإضافات ومقترحات وتصويت على عبارات لا معنى لها، كانت بحق أشبه بفاصل كوميدي بين أخبار الخسارات الفادحة والهزائم التي تتعرض لها الأمة صبحاً وظهراً وليلاً، من دون أن يفكر أي برلمان عربي بوضع "قانون لحماية الأمة"، وإلا فما معنى كل هذا النقاش المحموم حول حماية ملابس شخص يستعد لحفلة الإعدام؟!
لا أحد يشكك في حماسة النواب الكرام، الطيبين، وصدق مقاصدهم، وبراءة ما طرحوه، حتى أنَّهم كادوا يتشاجرون من أجل غرض نبيل كهذا. لكنَّ ثمة أولويات ينبغي أيضاً التوقف عندها، مثل الأخطار التي تتهدَّد أراضي وحدود وسكان وهوية الوطن العربي، من خارج الوطن ومن داخله؛ من أعدائه ومن أبنائه. وهي ربما أولوية أكثر أهمية من الحديث عن اللغة، وعن شرط أن تُصاغ الإعلانات ومراسلات الوزارات باللغة العربية!
ومن طريف ما قيل في نقاش السادة النواب، أن طالب أحدهم بأن تكون أيضاً لغة "المفاوضات" هي العربية!
المهم في الأمر أن هذا النقاش المزعج الركيك، وهو يتحدث عن اشتراط اللغة السليمة والفصحى لأي إعلان أو مراسلات أو عقود أو اتفاقيات، أو كل ما ينشر ويكتب، تَجاهل تماماً الإشارة إلى يافطات المرشحين للانتخابات النيابية، والتي عادة ما تغصُّ بالأخطاء الإملائية المضحكة والمثيرة للغثيان!
...
اللهم إنَّا لا نسألك ردَّ القضاء.