بؤس المنهج ومأزق السلفية

تتأطر إشكالية المنهج في قراءة التراث عبر إختلاف المشارب الرؤيَوية والإتجهات الفكرية التي تنهل من مرجعيات متضاربة أحياناً، وعبر مناهج مستوردة صالحة للتبيئة والمجاوزة، ومن ثم إحداث قطيعة، بَيد أن تعدد المرجعيات الفكرية في الخطاب العربي المعاصر ساهم في زيادة إشكالية التراث وهندسته في مواقع تفكيرنا المعاصر، فالمثاقفة enculturation تمر عبر الترجمة أولاً ، وتسبقه – كشرط لازم – عملية التثاقف acculturation ، أي القراءة التراثية ومعرفة الأصول وقراءة تاريخ الأفكار بتواصلية فكرية تنطلق من الخطاب الجاهلي مروراً بالنصوص المؤسسة للإسلام الأول، عبر قراءة تواصلية – لا متقطة – لتاريخ الأفكار.

عقب هذه القراءة – والتي تؤدي إلى تفتيت التراث عن طريقِ احيائِه – حسب نظرية أمين الخولي، تأتي مرحلة المثاقفة التي تعني في بداياتها النهل من المعارف الغربية وتمحيصها في قراءة أولية ، ومن ثم ترجمة ما تيسر من هذا التراث، قبل الشروع في تطبيق منهجياته التي هي بمثابة التاج لهذا الجسم المعرفي والأبستيمولوجي كما بات يقال اليوم.

إن اشكالية المنهجح تتجلى في عدم قراءة التراث العربي قراءة معمقة وبتواصلية من قبل الأنتلجنسية العربية، وهذا ناتج عن عدم تحقيق هذا التراث واستخراجه من أروقة الجامعات وأقسام المخطوطات في الجامعات العالمية، ونستذكر هنا ما قاله عبد الرحمن بدوي والأب أنستانس ماري الكرملي وكوركيس عواد ويوسف زيدان وغيرهم من المشتغلين في تحقيق التراث، أن عشر هذا التراث – على أبعد حد – لم يتم التطرق له ، ويعد من باب اللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه حسب تعبير محمد أركون.

وتكفي نظرة – وعلى عجالة- إلى مخطوطات ابن سينا والفارابي والغزالي وترجماتها اللاتينية واليونانية والسريانية ، في مكتابات العالم ، مثل لايدن والأسكوريال ومكتبة جامعة أسطنبول ومعهد واشنطون للدراسات الشرقية، بالإضافة إلى مكتبة الكونجرس الأميركية ، أن تبين المأزق والإنتقاء المفزع والإنفصال في قراءة التراث.

وتأتي إشكالية الكتب المترجمة والتي غالباً ما تكون إنتقائية ومتعددة المراجع تبعاً لتغير المشتغلين في هذا الحقل، فالنصوص التأسيسية للإستشراق لم تترجم ،و تكفي إطلالة على مؤلفات تشارلز ليال و ريتشارد بيرتون والسير وليم جيمس ، وغيرهم من الاباء الأوائل للإستشراق، والذين ترجموا ونقحوا التراث العربي ، مثل تحقيق المفضليات للمفضل الضبي على يد ليال، وتحقيق ألف ليلة وليلة وديوان أمرؤ القيس على يد السير وليم جيمس ، بالإضافة إلى رسائله التي تقع في ست مجلدات عن العرب وتاريخهم، ووصولاً إلى كتب الإستشراق الحديث الذي تجاوز ما بعد الكولونيالية وتدخل في مرحلة القراءات المنهجية المتعلقة بالأنثروبولجيا والسيميولجية وغيرها من المدارس، وأبرز أمثالها سوزان ستاتيكفيتش ولوكزمبريغ صاحب كتاب " قراءة سريانية للقرآن" الذي أقام الدنيا وأقعدها في أوائل القرن الواحد والعشرين.

إن عدم الإطلاع على المراجع التأسيسية للفلسفة الحديثة وخصوصاً فلسفة الأنوار Enlightenment والكتابات الأصولية في مجال السيسيولوجية والأنثروبلوجيا يؤدي إلى تشتت وزيادة أشكلة التراث، فأبو التاريخ الفيلسوف هيغل مثلاً، تم تداول فلسفته بنوع من عملية قيصرية أدت إلى إغتصاب المفاهيم الهيغلية والفلسفة المثالية من أصلها، فهذا الفيلسوف خلف ما يزيد عن ثمانين مجلداً ( المجموعة الكاملة بالإنجليزية : the complete edition ) لم يترجم منها إلا النزر اليسير، وزاد من المعضلة كون هذا النزر اليسير لم يقم مترجم واحد بترجمته بل عدة أشخاص من مشارب مختلفة ومن مصادر متنوعة، ويكفي الإطلاع الى ترجمات مجاهد عبدالمنعم مجاهد، والمقدمات الإستفتاحية التي كتبها على ترجمته ، لتبين أن هيغل الإسلامي صاحب و يختلف عن هيغل جورج طرابيشي ذو النزعة اليسارية .