صناعة الضحك على الذقون
يوماً بعد يوم، نكتشف كم تتذاكى الدوائر الحاكمة علينا، وكم تظهر غير ما تبطن، وتقول خلاف ما تفعل، وتدعي بعكس ما تنتوي، وتمنح الخداع شكل الاقتناع، وتماطل وتراوح وتسوف وتشتري الوقت لغاية في نفس يعقوب. يوماً بعد يوم، ندرك كم هي ماهرة هذه الدوائر في صناعة الوهم، وشاطرة في تسويق الادعاءات، ومتفوقة في الضحك على الذقون، ومتمرسة في انتاج الجعجعة وليس الطحن، وقادرة على طبيخ البحص، ودق الماء في الاناء، وتصوير الحبة على انها قبة، وصرف وعود ليس لها اي رصيد. حوار لاجل الحوار، وليس لتشكيل القناعات وتوليد الافكار.. انتظار ما بعده انتظار، لتعود حليمة وقت اللزوم الى عادتها القديمة.. كلام مكرور ومنزوع الدسم لا يسمن ولا يغني من جوع.. رهان موسمي على المجهول، لعل العاصفة الثورية العربية تجد نهايتها في القريب العاجل، وتريح اولي الامر من كوابيس الضغط ودوشة الدماغ. لا جدية في الطرح، ولا سلامة في النية، ولا مصداقية في الهمة، ولا رغبة حقيقية في الاصلاح والتغيير رغم كل ما يذاع ويشاع، فالهدف لدى الدوائر الحاكمة هو التظاهر والتذاكي والادعاء والانخراط في همبكة كلامية واعلامية من شأنها احتواء التطلعات والتحركات الشعبية في الداخل، وامتصاص الضغوط الاصلاحية القادمة من لدن الدول الاجنبية المانحة. ليس في الامر عجز بل فيه كل التعاجز، وليس في هذا التباطؤ والتسويف والتأجيل خطأ عفوي بل فيه كل الخطيئة المقصودة مع سبق الاصرار والتعمد.. ذلك لان درب الاصلاح واضح ومفتوح، ومناخ التغيير حاضر بكل قوة، سواءً على الصعيد الداخلي او العربي، بعدما تمكن شتاء العرب الذي غادرنا منذ بضعة ايام، ان يستعير حرارة الصيف وبهاء الربيع، كيما يشعل اوار الثورة في العديد من الاقطار العربية. الاصل والاساس ان نسابق الوقت كي نسبقه، لا ان ننتظره ونلهث خلفه، فالوقت - كما يقال - سيف اذا لم تقطعه قطعك، وقد رأينا بأم العين كيف خسر المراهنون من حكام مصر وتونس وليبيا واليمن والبحرين رهانهم على شراء الوقت، وتدوير الزوايا، وتقسيط عملية الاصلاح، وتقديم التنازلات الكبيرة بعد فوات الاوان. الاصل والاساس ان نزاول فعل الريادة والمبادرة طوعاً وبملء الاقتناع والاختيار، لا ان نمارس المراوغة والخداع والباطنية السياسية التي تنفر الجماهير من الحكام، وتباعد بين القاعدة الشعبية والقمة الرسمية، فقد ثبت بواقع التجربة العربية الراهنة ان شعبية الحاكم هي سنده وحصانته ومصدر قوته، وان كل ما عداها من صداقات دولية، او تحصينات امنية، او بهارج اعلامية ورشاوى مالية، محض وهم لا يصمد وقت الشدة وساعة الاختبار، واسألوا القذافي ومبارك وابن علي الذين تخلى عنهم اصدقاؤهم الامميون قبل صياح الديك، وانهارت حصونهم الامنية امام زحف الجماهير باسرع من انهيار المدائن اليابانية امام الزلازل والاعاصير الاخيرة. يخسر كثيراً كل حاكم يخسر ثقة شعبه ومحبته ورضاه، فالشعب هو الملاذ الآمن، والحضن الدافئ، والحصن المكين للحكام والحكومات.. لا نقول ذلك من قبيل البلاغة والمبالغة والخيال الرومانسي، بل نقوله ونقرره سنداً للحقيقة والواقع والتجربة الملموسة، فمجرد ان خسر حسني مبارك ثقة ومحبة شعبه خسر حكمه، بل خسر نفسه، ولم تنفعه ملياراته المسروقة التي لطخته بالعار، ولم تشفع له خدماته الجليلة والطويلة لامريكا واوروبا واسرائيل، ولم تسعفه وتنصره وتحل دون سقوطه كل جوقات النفاق والارتزاق والفساد في حزبه الحاكم ونظامه القمعي وطبقته الفاحشة الثراء. يخطئ من يتصور في بلادنا ان الحالة الثورية العربية الراهنة، هي مجرد >جمعة مشمشية< سرعان ما تغيب، او محض حريقة قش لن تلبث ان تخمد وتترمد، او زوبعة جزئية وانتقائية قد تصيب دولاً غيرنا ولكنها لن تصلنا او تطالنا.. ذلك لان القراءة الرشيدة لواقع الحال ومنطق الامور تكشف خلاف ذلك على طول الخط، بل تؤكد ان هذه الحالة الثورية العربية سوف تتواصل اياماً واعواماً والى حين تحقيق اكبر نقلة نوعية في الخرائط السياسية والاقتصادية والثقافية ما بين المحيط والخليج، اسوة بما حدث في منظومة دول امريكا اللاتينية، وقبلها دول اوروبا الشرقية، وقبلها بعض دول اوروبا الغربية مثل اسبانيا وقبرص والبرتغال واليونان. صحيح ان الضغط الشعبي على صناع القرار ليس كبيراً او موحداً في الوقت الحاضر، وان الاحزاب والنقابات والاتحادات ومؤسسات المجتمع المدني لم تقم بالواجب المطلوب بعد، وان التدابير الامنية قد فعلت فعلها في الترهيب والترغيب والتخريب والاملاء والاحتواء واستنزاف الطاقات الشعبية، غير ان كل ذلك ليس سوى مرحلة المخاض ومحطة البداية ومنصة الانطلاق التي سرعان ما تبلور نفسها في صيغة حركة ثورية واسعة وموحدة ومؤهلة لفرض ضغوطها على جمع الساهين واللاهين والمتشاغلين والمتثاقلين والمتهربين من استحقاقات التغيير الجدي والاصلاح الجذري. ورغم غربان البلطجة والترويع، الا ان الشباب الاردني قادم بعدما تخلص من خلافات الامس ومشاحناته الصغيرة، وتماهى مع اخوانه الشباب الثائرين في معظم الربوع العربية.. والضمير الوطني في طريقه الى الالتئام والالتحام بعدما عانى طويلاً من مثالب الانقسام، ورزح لسنوات عديدة تحت اوهام الاحلال والابدال، والتضارب الديموغرافي.. والشعب بملايينه الستة مستعد للعطاء وحاضر في الميدان وجاهز لاعادة انتاج هبة نيسان المجيدة التي فرضت عام 1989 بند الاصلاح على اجندة الحاكمين، وأسست لحقبة التحول الديموقراطي قبل العرب اجمعين، بل قبل دول كثيرة في اوروبا وآسيا وامريكا اللاتينية. غير معقول ان يقتصر اصلاحنا السياسي على تبديل حكومة البخيت بحكومة الرفاعي، وفق طريقة غوار الطوشي في احدى مسرحياته، او ينحصر في تعديل بعض بنود قانون الصوت الواحد الذي اكل الدهر عليه وشرب، او يسمح بتشكيل نقابة معلمين بعد عام كامل من اللقاءات والاستشارات والمناورات التي استنزفت الكثير من الجهد والوقت، او يستثني معاهدة وادي عربة وتداعياتها السياسية والامنية من اي نقاش او اعادة قراءة ومراجعة، في ضوء التهديدات الاسرائيلية المتكررة لوجود الدولة الاردنية. وعليه.. فهذا زمان المسؤولية الوطنية، وليس الهمبكة الاعلامية.. زمان الشعب والشعبية، وليس استرضاء الدوائر الاجنبية.. زمان الثورات والانتفاضات والاملاءات، وليس تسول الحقوق واستعطاء الاصلاحات.. زمان الانظمة المفصلة على مقاس الشعب ووفق ارادته وسياته ومبتغاه، وليس العكس.. زمان الصدق والصراحة والوعد الحق، وليس الغش والخداع واللف والدوران.. زمان الجيوش الباسلة في مصر وتونس واليمن التي نالت اعجاب الدنيا باسرها حين اختارت حماية شبان الثورة، وليس طغمة الحكام الفاسدين !!