متى نعرف أصدقاءنا الحقيقيين ؟


 

حين كنت أصغي للمناضل والسياسي الفلسطيني الدكتور مصطفى البرغوثي رئيس المبادرة وهو يحاضر في قاعة المدارس العصرية الاسبوع الماضي كنت في نفس الوقت أفكر في المؤرخ الاسرائيلي الشجاع إيلان بابيه الذي كنا نهيىء أنفسنا لاستقباله والمشاركة في ندوته في مركز الرأي للدراسات في الثامن من الشهر الجاري ثم ألغيت في اللحظة الاخيرة نتيجة لتهديد البعض بمنعها بكل الوسائل (!) لانها في نظرهم نوع من التطبيع مع العدو الاسرائيلي، والمفارقة هنا أن الدكتور بابيه هو نفسه ضحية من ضحايا القمع الاسرائيلي ! وقد وجدتُ الفرصة مناسبة لاستطلاع رأي الدكتور البرغوثي في ذلك اثناء العشاء التقشفي الذي أعقب محاضرته، فأبدى دهشته وامتعاضه من هذا التعامل الخاطئ مع صديق للشعب الفلسطيني لاقى الأمرين على يد السلطات الصهيونية حتى اضطر آخر الأمر الى ترك عمله وعائلته والهجرة الى بريطانيا والعمل فيها كاستاذ في جامعة اكزيتر.. ومن ناحيتي أضيف أن السلطات حرضت على مقاطعته حتى لم يبق الى جانبه من زملائه اساتذة جامعة حيفا إلا صديقه الاستاذ العربي الفلسطيني في نفس الجامعة الدكتور محمود يزبك الذي سعى لتنظيم ندوته في عمان.
وقد تساءل الدكتور البرغوثي باستنكار: هل الذين وصفوا التعامل مع إيلان بابيه بالتطبيع يعلمون أنه ومنذ ربع قرن يناضل معنا من أجل حق العودة ولفضح الرواية الصهيونية الكاذبة التي تقول إن الفلسطينيين هاجروا من وطنهم بدون ضغط أو اكراه ؟ وهل قرأوا كتابه العظيم؟
(التطهير العنصري للفلسطينيين) الذي ترجم لعشر لغات وأثبت فيه أنهم طردوا من اراضيهم وقراهم بالقوة وبالتهديد بالسلاح وبارتكاب جرائم الاغتيال الجماعي؟ ومن ناحيتي ايضاً اضيف أنه ذكّر العالم في كتابه بمأساة قرية الطنطورة التي كادت قصتها الحقيقية ومجزرتها البشعة ان تطمس من التاريخ لولا ان كشف اسرارها باحث ناشيء في جامعة حيفا، وقد اوحت مأساتها للاديبة المصرية الكبيرة رضوى عاشور بكتابة روايتها الرائعة الطنطورية قبل ان ترحل ببضع سنوات..
وقد ازداد غضب الدكتور البرغوثي حين أضفت له بأن بعض المعترضين على محاضرة إيلان بابيه هم ممن يشككون في صدق ناعوم شومسكي فقال أن عالم الفلسفة واللسانيات الاميركي هذا هو الاكبر والاشهر في العالم وهو الذي يعرف المثقفون الاحرار مواقفه من كفاح الشعوب المضطهدة وتأييده لحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال حتى أن اسرائيل منعته، وكان في الرابعة والثمانين، من الدخول حين جاء ليعلن اعتراضه وشجبه للعدوان الهمجي الذي شنته على شعب غزة..وكاد الدكتور البرغوثي ألا يصدق حين قلت إنهم ايضا يغمزون من جانب الحركة الفلسطينية النبيلة ال (BDS )، ويعتبرونها نوعاً من التطبيع لأنها تقبل في صفوفها اسرائيليين يؤمنون باهدافها وتتعامل مع منظمات اسرائيلية او يهودية عالمية تساعدها في نشر دعوتها للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، وهي التي اقضّت مضاجع اسرائيل والصهيونية واذرعتهما الاخطبوطية في مختلف دول العالم بالنجاحات التي حققتها في صفوف الاكاديميا العالمية لمقاطعة الجامعات الاسرائيلية كما في صفوف الاتحادات العمالية وفي مواصلة الضغط على الشركات والصناديق الكبرى في كثير من دول العالم كي تسحب استثماراتها من اسرائيل، وآخرها واحدة من اكبر شركات الاستثمار في العالم هي Veolia التي خسرت في العام الماضي اكثر من 4 مليارات من الدولارات نتيجة لفقدان استثمارات لها في اسرائيل وغيرها من الدول.
وبعد.. قبل أن أسال عن آخر الفتاوى في الاختلافات والاجتهادات حول معنى التطبيع الحقيقي الذي ينبغي فعلاً مقاومته، اتساءل متى نعرف اصدقاءنا الحقيقيين الذين يدافعون عن قضايانا ويفوقون في فضلهم اولئك الذين يقيمون بين ظهرانينا ويدّعون بأنهم يناضلون، ونضالهم لا يتعدى حناجرهم.. والشعارات!