تهافت الخطاب الإصلاحي في الوطن العربي


رعد تغوج
لابُدَ أنَّ الحَديثَ عَنْ إنتاجِ الديمقراطية في الأقطار العربية مُخالف – كلياً – للحديث عنه في الخطاب الغربي إبانَ القرن التاسع عشر والثامن عشر ، عصر التدشين الفعلي للعمل المُؤسسيّ وإنشاءِ منظمة حقوق الإنسان ، وإبداء الإصلاحيين – لأول مرة – بفكرة العدالة الاجتماعية التي صاغها جان جاك روسو على أكملِ وجه ، وصيغة الحرية التي بشّرَ بها ستيورات ميل ووليام جيمس ، وقبلهما الفيلسوف اليهودي باروخ إسبينوزا ، والمقولة التجديدية – والثورية – لتمثيل الشعب تمثيلاً عادلاً وديمقراطياً ، وهي خطابات ساهمتْ ثلةٌ مِنْ المُفكرين في تحريرها وظهرتْ في الموسوعة الفرنسية الشهيرة التي كتبَ فصولها التمهيدية دينس دايدرو.
أسقطتْ الشعوب الأوروبية في هذه المرحلة ما يزيد عن أربعين ملكية شمولية ،وأسهمتْ في تدشين الجمهورية ، كمُفردة يتم فيها تداول سِلميّ للسلطة – إنتخابياً ودورياً – بينَ عِدة تيارات تكونُ الأفضلية فيها للكفاءة السياسية والعمل التطوريّ ، ومِنْ هنا تختلفُ مصائر الإصلاح الأوروبيّ عنْ نظيرتها العربية ، في كونِ الأخيرة بشّرتْ بجمهورياتٍ سُرعانَ ما تحولتْ إلى ملكيات شمولية وديكتاتورية ، تُؤمنُ بالتوارث كسُنة مِنْ سُنن التطور المُحتجز (على حد تعبير الصديق المفكر سلامة كيلة) .
هذا ما حدثَ مع انحرافات فكر النهضة العربية عَنْ مساراتِها التنويرية ، وجاء أول إعلان للإنحارف بتأسيس جماعة الإخوان المُسلمين ، كقوة دينية سياسية تمزجُ عنْ سابق إصرارٍ وترصد بالأفكار القروسطية مع مُعطيات الواقع السياسيّ المُعقد ، دُونَ منهجية واضحة في قراءة التراث وتأويله عقلانياً ، أو النظر إليه كصيغة قديمة قابلة للتطور والتجاوز ، وإنما كملفوظ يصلحُ لكلِّ زمانٍ ومكان ، ويُمكنُ تطبيقه ولو بالقوة على السياسة الإقليمية والدُولية ، ولنا أنْ نُشير بأنَّ تطور العلاقات الدولية والقانون الدوليّ العام ، كانَ بكُليته – ونحنُ مسئولون عن هذا الكلام – بعيداً كلَّ البُعد عَنْ المُساهمة العربية في تدشينه ، فلا وجودَ لمفكر حقوقيّ واحد ، مِنْ أصلٍ عربيّ ، قام بالمساهمة في وضع القانون الدوليّ العام ، وهذا ما لاحظه الدكتور رشاد السيد أيضاً . ( لنا أنْ نأخذ مُحاولة الأزهر البائسة في صياغة قوانين دُولية ، لكنَ دون أنْ نحمل تلك المحاولة بالجدية اللازمة).
لقد نشأت سرديات حقوق الإنسان وبروتوكلات السلام والحرب وفض النزاعات وترسيم الحدود ، وقوانين الدُول ، أو قوانين الشعوب كما كانت تُسمى في القرن التاسع عشر ، بمنأى عن المساهمة العربية ، وهي في جزء كبير منها الآن ، تدخلُ حيزَ المسكوت عنه واللامفكر فيه عند النخبة العربية ، وعلى العكس مِنْ ذلكَ أخذ خِطابُ الردّة يزدادُ اتساعاً عندَ شريحة واسعة مِنْ الإنتلجنسيا العربية ، وشكلتْ نماذج مُحتداة عندَ الجماهير العربية ، مثل خالد محمد خالد ، الماركسيّ السابق الذي ألف كتباً سماه "رجال حول الرسول" دُونَ أدنى مُساءلة معرفية، وكذلك محمد عمارة الذي كان نصيراً للمعسكر الشرقي والسوفيتي ، ويسارياً ماركسياً مِن الطراز المعرفيّ ، والذي فاجأ الجميع وأبهرهم عندما تمَّ تكفير نصر حامد أبو زيد بسبب كتابه "نقد الخطاب الدينيّ " وطلبتْ الجزيرة مِنْ أبو زيد ومحمد عمارة أنْ يُشاركا في برنامج الاتجاه المُعاكس ، ليأتي المفكر الماركسيّ محمد عمارة لابساً العمة والعباية ، وبيده مسبحة ويرد على نصر حامد أبو زيد ويتهمه بالكفر البواح ، واستباحة ما حرمه الفقهاء !!!
ويُصبحُ الحديث عن الديمقراطية الآن – وفي ظل الربيع العربي – كالحديث عن الأندلس ، فهي أعز مفقود وأهونُ موجود ، وسطَ الدولاب الدمويّ الذي يشتعلُ في المنطقة مِن أقصاها إلى أقصاها .