الصحافة المطبوعة : استدارة أم خطوة تنظيم « 2- 3 »

انتهينا في مقال الامس من حيث ضرورة قلب علاقة الصحفي بالسياسي , بحيث تكون العلاقة قائمة على حق الصحفي بالوصول الى المعلومة دون لبس او مواربة كجزء من حق المواطن في المعرفة وكجزء رئيس من حق الصحفي , لكن انقلاب المشهد جعل من السياسي مالكا للمعلومة بشكل شخصي يمنحها لمن يشاء ويحجبها عمن شاء وبالتالي انحاز المسؤول الاردني الى مؤسسات الاعلام الاجنبي والعربي لنشر معلومته ولا ننسى كيف أن خبر تشكيل او تعديل الحكومة ظلّ حكرا على وكالة اعلام اجنبية بعينها , فيما انهالت المعلومات على الوسائل الاعلامية الفضائية العربية والاجنبية وصار الاعلام الاردني يطارد الخبر من وسائل اعلام غير اردنية .
خلال هذا الانفلاش المعرفي ظهرت الصحافة المستقلة من حيث رأس المال , اي ان الحكومات واذرعها لم تساهم في تلك الصحف , ونجحت تلك الصحف في خطف جزء من العاملين في الدستور والرأي و صوت الشعب الموؤودة مستثمرة في هامش الحرية الذي ارتفع قليلا لغياب التدخل الحكومي فيها نسبيا وارتكزت الى علاقات يشوبها اللبس مع دوائر سياسية وأمنية , فأصبحت طريقا لتسريب الاخبار الحساسة التي تكشف حجم التباين داخل دوائر الدولة وحجم التنابز بين رجالاتها , فحقق بعضها حضورا وغاب بعضها بغياب الممول الخَبري ام إنتفاء المصلحة في وجودها , تاركة اخطر ظاهرة عرفها الوسط الصحفي واكثرها سلبية على المدخول المالي , حيث كسرّت تلك الصحف اسعار الاعلانات والاشتراكات بعد ان عجزت عن اثبات الحضور الاعلاني وحتى السياسي رغم اعتمادها صيغة متجددة في التحرير ونقل الاخبار , جذبت القارئ قليلا , لكنها اولغت في التنافسة غير الشريفة وصار الاشتراك في تلك الصحف معروضا مثل الخس في الطرقات وتدنى سعر الاعلان الى دون الكلفة بكثير , وهناك رأي يقول ان هذه المنافسة غير الشريفة كانت مدعومة من دوائر في الدولة او من برامج اجنبية حاولت الدخول الى الاعلام لنشر المشروع الامريكي الجديد عن دمقرطة الشرق الاوسط وما يسند هذا الراي ظهور مطبوعات تحمل نفس الاسم تقريبا ونفس الشعار ونفس نوع الحرف في دول الطوق العربي متزامنا ذلك مع ظهور فضائية الحرة الامريكية ولو دقق المتلقي في الاحرف التي ظهرت بها الحرة وباقي الصحف الشبيهة لوجد التقارب واضحا .
هذه الخطوة لم تلتفت اليها الصحافة القائمة تاريخيا " الدستور و الرأي " وتعاملت معها بوصفها مغامرات لرأس مال يحاول الانخراط في الاعلام والاستفادة من بريقه , واغفلت انه اعلام موجه ومدعوم من اوساط محلية واوساط اجنبية , كخطوة لتحطيم الذاكرة الصحفية الاردنية وكسر مألوف الشارع الاردني تمهيدا لكسر ثوابت اكثر خطورة منها هيبة الدولة وهيبة الحكم وكل هيبات المؤسسات السياسية والاقتصادية وغازلت شعبوية العقل العربي الذي يحب ان يعيش نظرية المؤامرة وهناك رأي لكاتب اردني مرموق بوزن احمد سلامة يقول انها كانت بداية تكسير الدولة والاستعداد للربيع الاسود فولادتها تزامنت مع مشروع ادارة بوش الابن للديمقراطية في الوطن العربي على الطريقة الامريكية ذلك المشروع الذي تراجعت عنه ادارة بوش الجمهورية ونفذته ادارة اوباما الديمقراطية.
وتزامنت هذه الظاهرة مع ولادة اسماء جديدة مقربة من مطبخ القرار ومحطمة له في ذات الوقت لارتباطها مع رموز الليبرالية المتوحشة وافرازاتها والغريب ان هذه الرموز بقيت تتنقل في مواقع الصحافة الطازجة او المستقلة ماليا , وحظيت بكل الدفء من الاحضان الليبرالية المتوحشة ومن عناصر الديجتال وهي التي ساهمت في تكريس ثقافة البغضاء بين مكونات الوطن الواحد وهي التي وضعت مدماك الشك في كل اجراءات الدولة ولا اقول الحكومة ,  وثمة مصطلح معروف في اوساط تلك النخبة لهذه الفئة , حيث حملت اسم " الفرن " , ومنحت اجزاء من الدولة مساحة لاعضاء الفرن لكي يعبثوا بكل الثوابت الوطنية على اختلاف تلاوينها .
هذه احد اخطاء الدستور والرأي حيث عجزتا عن قراءة الخارطة جيدا والانتقال الى طور جديد من العلاقة مع الحكومة او تحديث الخط التحريري للتصدي للهجمة الليبرالية المتوحشة على الذاكرة الوطنية , فوصلتا الى معاناة الدستور وازمة الرأي , التي جرى التحضير لها بعناية وخلال عقد كامل فأصبحتا جزء من الحرس القديم وتركتا الحداثة والتنوير لحلفاء الليبرالية الجديدة الذين اوصلوا الصحيفتين الى ما وصلتا اليه