الناس والانتحار!

قبل نحو ثلاثة أسابيع، تفاجأتُ بالطريق من دوار الداخلية إلى دوار المدينة الرياضية، مزدحماً بالسيارات والمارة، رغم انتهاء ساعات الذروة ليلاً. أليس ذلك غريباً؟! هل يمكن أن يخطر ببال المرء أن ثمة شاباً يقف على حافة سطح عمارة من عدة طوابق، مخططاً لرمي نفسه أرضاً ليموت منتحراً، ما لم يوافق والد الفتاة التي يريد خطبتها على تزويجه إياها، فيما الجمهور العريض واقف يتفرّج، متسبباً بتعطيل المرور؟
بالطبع لا! ما يمكن أن يظنه المرء، وهو يلمح سيارة الإسعاف من بعيد، أن ثمة حادث سير عنيفا، لا سمح الله، حتى إذا بلغ بؤرة الأزمة، وجد الناس يتبادلون الضحكات وهم ينظرون إلى "فوق"، فيما تولّى بعضهم تصوير المشهد المثير بكاميرا تلفونه الخلوي.
ما الذي كان يريده الجمهور الغفير يا ترى؟ ذلك هو السؤال الذي استوقفني، أكثر مما استوقفني السؤال الطبيعي في تلك اللحظة، الذي يُفترض أن يدور حول دوافع الشاب للانتحار. حقاً: ما الذي كان يريده ذلك الجمع المتجمهر حول المشهد المأساوي المؤسف؟ ثم، ما دلالة تعامل الحاضرين مع الحدث على أنه "فرجة"، وأمر مسلٍ؟!
ربما يتعلق مثل هذا السلوك، أكثر ما يتعلق، بمنظومة القيم التي تصيغ سلوك كل واحد منّا. كان يمكن للمشهد أن يكون أكثر معقولية، لو أراد الناس من تجمهرهم الحيلولة دون وقوع الانتحار، أو المساهمة في مساعدة رجال الأمن على مهامهم. لكن الحقيقة أنهم كانوا يعيقون سير العمل، ويضفون على المشهد المأساوي مزيداً من "الإثارة" المفترضة، كتلك التي يوفرها الحضور الجماهيري الهائل للأحداث الرياضية.
ثم، ما الذي كان يدور في خلد ذلك الشاب، يا تُرى، وهو يرى بعينيه كل ذلك الاهتمام المفاجئ به؟ لو علم من قبل أنه مهم إلى هذا الحد، ما فكّر بالانتحار أبداً؛ فدافع التفكير بالانتحار، يتمحور من دون ريب حول الإحساس بالهامشية واللاجدوى، التي أدت بوالد الفتاة التي يحبّها إلى رفضه تزويجه ابنته. لعله اكتشف في اللحظة الأخيرة، بينما حاول رمي نفسه إلى الشارع، أن ذلك التجمهر لا يصدر عن اهتمام به، بل عن احتفاء بالموت المنتظر، واستعداد لتبادل الحكايا والقصص والأخبار حول الحادثة في اليوم التالي، مع تضخيم تلك الأخبار طبعاً، وتغليفها بمزيد من إثارة لم تقع، كعادة مجتمعاتنا التي تسعد بترويج الإشاعات والتباهي بإيراد أخبار لا مصدر لها، كي يُشعر الواحد نظراءه بأهميته ومركزيته في محيطه.
تجاوز المسافة من دوار الداخلية باتجاه دوار المدينة الرياضية، احتاج أكثر من نصف ساعة في ذلك الوقت المتأخر. المسافة ذاتها لا يلزمها أكثر من عشر دقائق في صباح الأحد المزدحم. ثمة إذن أزمة في الإحساس بالمسؤولية العامة، تتجلى في عدم احترام حق الآخرين في استعمال الشارع العام من دون تعطيل. ليست تلك الحادثة هي وحدها التي تؤشر على هذه الحال، ففي معظم أيام الأسبوع يعطّل الراغبون ببيع سياراتهم السير في الشارع الخلفي لحراج السيارات الواقع على حافة منطقة المدينة الرياضية، حتى يلزم المرء أن يمضي أكثر من ربع ساعة وهو يقطع مسافة لا يزيد طولها على 500 متر. وفي أيام الخميس، لا يفاجأ المرء كثيراً حين يجد أن ثمة من استولى على الشارع العام لإقامة حفل بمناسبة نجاحه! وهكذا، فإن البحث عن التسلية يتفوق على الشعور بالانتماء للمجتمع.
بعدها بأيام، قيل إن مطلوباً في سجلّه 75 قيداً أمنياً، حاول الانتحار برمي نفسه من فوق جسر دوار الداخلية. لم أكن موجوداً لأرصد السلوك الجمعي إزاء الحدث، لكن لا يراودني شك بأن ما جرى يومها كان شبيهاً بما شهدته!