عندما يحتج القراء على تأييدنا لاعتصام (الداخلية)....أحمد ابوخليل
اخبار البلد- جرت العادة أن يحظى الكاتب المعارض والمنتقد لقمع الحكومات برضا القراء باعتبار ذلك جرأة منه, ولكن هذه المرة أظهر عدد ملحوظ منهم عدم رضاهم عن كثير مما كتب في نقد الموقف الحكومي, إنهم ببساطة لم يروا في موقفنا جرأة بل رأوا فيه مجاراة أو ربما نفاقاً لفريق دون آخر. أحد القراء كتب في بداية تعليقه كلاما ودياً ولكنه وبأدب أيضاً أضاف ان الاعتصامات "أفقدتني بصيرتي" بعد أن صرت أؤيدها على العموم. كما نشرت الصحيفة أمس رداً من قارئ محترم على الزميل فهد الخيطان قال فيه أن سيتوقف عن قراءة الصحيفة احتجاجاً على انحيازها للمعتصمين.
بالنسبة لي, وعلى الأغلب بالنسبة لكثير من زملائي, ليس أحب إلى قلوبنا مِنْ أن يخوض الأردنيون نقاشاً جاداً حيوياً حول وطنهم, حاضره ومستقبله وتاريخه أيضاً, نقاشاً يصل فيه الاختلاف في الرأي إلى أقصى مدى. إن الاختلاف في الآراء أكثر فائدة من الاتفاق, والدول والشعوب تبني نفسها من خلال الصراع والاختلاف والتناقض أكثر مما تفعل من خلال الانسجام والاتفاق والمجاملة, لأن الأخيرة تعني الركود والسكون أي عدم التقدم. ولكن الاختلاف المقصود هو فقط الاختلاف الذي يحتكم الى الديمقراطية, إنه مشروط بعدم الانتقال من حالة الرأي والرأي الآخر إلى حالة "الهراوة والهراوة الأخرى", او "الحجر والحجر الآخر".
ما الذي يعنيه الاعتصام والتظاهر وغيرهما من أشكال الاحتجاج? ولماذا يرحب بها كاتب يفترض أن "يتحلى بالمسؤولية", كما جرت العادة في وصف الكتاب?
لا بأس أيها الأعزاء من طرح الأسئلة بما فيها ما يخص البديهيات, ففي كثير من الأحيان تتحمل البديهيات المسؤولية عن الجمود والخراب.
(2)
إن تنظيم الناس لمصالحهم وإيجاد طرق وهياكل التعبير والتمثيل للفئات والجماعات المختلفة وبشكل مستقل عن السلطة, هي أمور تتصل ببناء المجتمع والدولة الحديثة. والسلطة في أي بلد ومنها بلدنا بالطبع, ليست من جنس الملائكة بل هي منتج بشري, وهي تمثل مصالح معينة وليست عملاً خيرياً يقوم به نبلاء محايدون, وبرنامجها هو برنامج لفئة أو فئات وبالضد من فئات أخرى. دعونا على سبيل المثال نتأمل السنوات العشر الأخيرة على الأقل منذ أن انتقلت سلطة القرار إلى يد فئة رأت في كل ما تم بناؤه في الأردن من تعليم عام وصحة عامة وبنية تحتية ذات بعد اجتماعي وغير ذلك من إنجازات, رأت فيها أمراً يضر بمصالحها وتعاملت معها باعتبارها مالاً سائباً جاهزاً للسطو والسرقة, وقادت عملية إدارية وتشريعية واسعة تسهل لها تنفيذ ذلك فعلاً, وقد تم ذلك تحت شعار "المصلحة الوطنية العليا", وهي بالمناسبة فكرة بلهاء لأنها في التطبيق كانت تعني أن هذه المصلحة العليا معلقة في الهواء بعيداً عن البشر.
إن استقلال المجتمع عن السلطة شرط من شروط بناء الدولة وقيام الشعب. واستقلال المجتمع هنا يعني أن يجد الناس الأطر المناسبة الفعالة والمبنية ديمقراطياً لتنظيم مصالحهم والتعبير عن مواقفهم وإدارة علاقتهم مع السلطة والتصدي لها عند الضرورة.
وبالطبع, إن التعبير عن استقلال المجتمع لا يشترط دوماً الاحتجاج والاعتصام. لكن في حالات كثيرة ومنها حال بلدنا ومجمل البلدان العربية التي تشهد الانتفاضات والثورات, وصلت أشكال التمثيل المتوفرة (برلمان, أحزاب, نقابات..) وآفاق تطور هذه الأشكال إلى أزمة, وتحولت هي ذاتها إلى جزء من المشكلة التي تستدعي الاحتجاج. تلك هي الحالة, لم تعد الشعوب قادرة على تحمل تغوّل السلطة, أي تغول الفئات التي تستلم السلطة.
(3)
سوف أقفز فوراً إلى سؤال منطقي يطرحه كثيرون الآن: لماذا انتقل الاحتجاج إلى دوار الداخلية بعد أن عشنا العشرات من الاحتجاجات السلمية (الحضارية بمعنى الأنيقة) التي كادت تحوز على لقب "الأولى من نوعها في الشرق الأوسط" وهو اللقب الأثير إلى قلوب الأردنيين? أي لماذا لم تستمر الأمور على حالها?
إن الاحتجاج عندما يتحول إلى عادة تمارس بلا انفعال وبلا صدق يصبح مجرد مشهد بائس, او على الأحسن مجرد طقس احتفالي يؤسس لفلكلور سياسي. لقد كان من الطبيعي أن يتذمر الشباب على الأسلوب التقليدي, وأن يبحثوا عن أسلوب يتفاعلون معه وينفعلون به.
السؤال الذي ينبغي أن نطرحه هو عن محتوى ما جرى على دوار الداخلية. في هذا المجال دعكم من الكلام عن جهة بعينها (الاسلاميين) "تقف وراء" الاعتصام, ليتهم يقفون فعلاً! أي ليتهم يتمثلون في كل مواقفهم ونشاطهم السياسي الروح التي سادت عند شباب دوار الداخلية وفي مقدمتهم بالطبع شباب الإسلاميين الذين أبدوا إلى جانب زملائهم مستوى أخلاقيا عالياً غاب كثيراً عن العمل العام في البلد, وأظهروا تماسكاً وانضباطاً وانفتاحاً واستيعاباً ليتهم ينقلونه إلى باقي تنظيماتهم سواء كانت وراءهم أو أمامهم.
الشباب على دوار الداخلية عاشوا تجربة خاصة في "الوحدة الوطنية", وهو ذلك الشعار الذي يتغنى به الجميع دون أن يعيشوه فعلاً, فلأول مرة يجتمع مثل هذا العدد في موقع واحد ينفعلون مع هتافات عن الوطن الأردني والشعب الأردني, كانوا يحملون العلم الوطني بمحبة لا تتكرر, كانوا يستوعبون بعضهم بروحية غير مسبوقة, وكانوا يتلقون الحجارة والشتائم وهم متعاطفون مشفقون على من يوجهها لهم, لقد ظل سلطان العجلوني يناديهم "والله إننا نحبكم" "تعالوا معنا وقولوا ما تريدون" و"لنبن وطننا معاً".
(4)
من منظور الاجتماع السياسي فإن ما جرى عند دوار الداخلية يعد نقلة نوعية مليئة بالمعاني الايجابية, لكن دعوني أستدرك هنا لأقول أن الأردنيين كغيرهم من شعوب الأرض لا يحبون أن تحصل المصادمات وتسيل الدماء, تلك هي مشاعر الانسان السوي, وحتى بالنسبة للشعوب العربية التي تعيش حالياً وعاشت في الأسابيع الماضية الثورات والاحتجاجات, فإن مسؤولية الدم تقع بالكامل على الأنظمة لا على الشعوب.
غير أن علينا أن ننتبه إلى أن الأردنيين بالذات يقلقون حتى من فرضية أن يتكرر في بلدهم أي من المشاهد الدموية التي يرونها عند أشقائهم, وهذه ميزة لهم لا عليهم, ولكنهم بالتأكيد ليسوا أقل بسالة من غيرهم. ثم دعوني أضع الفرضية التالية التي قد تحتاج لبحث أعمق: إن تاريخ الأردنيين يخلوا من الثورات بالمعنى الدارج للكلمة, لكن فيه الكثير من "الغضبات", ولذلك هم يسمون تحركاتهم الكبرى بأسماء مثل: "هبة نيسان" أو "هبة معان" و"هيّة الكرك" و"حركة ابن عدوان" "تمرد كليب الشريدة", وفي الرمثا يتحدثون عن "قومة الرماثنة" في الخمسينات. لقد حصلت هذه "الغضبات" عندما فشلت الأساليب الأخرى, والأردنيون اليوم يتذكرونها ويفخرون بها لكنهم لا يريدون أن تتكرر. ومن هنا فإن الاعتصامات والمظاهرات تعد أساليب سلمية ومعاصرة لا تنطوي على مخاطر كثيرة, وهو ما ينبغي ان يفهمه الحريصون على الأردن, وأن يفهمه قراؤنا الأعزاء الذين ربما لم نوفق في عرض وجهة نظرنا لهم بشكل جيد.
(5)
دعوني أختم بالتذكير بالطريقة التي فكر فيها بناة الأردن الأوائل بوطنهم, وسأروي حادثة ذات دلالة في هذا السياق: ففي عام 1920 وقبل نشوء الامارة, وعندما فكر زعماء المناطق الأردنية بمصيرهم, خاطب علي خلقي الشرايري زعيم منطقة الشمال زملاءه زعماء كل من الكرك والسلط داعياً إياهم إلى العمل معاً "من أجل إقامة رابطة مدنية لهذا العش الصغير", وهذه الكلمات الجميلة منقولة حرفياً, ووقتها جاءت إلى جانب كلام عميق آخر عن حماية الأردن من المشروع الصهيوني, أي ان البناة الأوائل حددوا الصورة التي يريدونها لبلدهم.
اليوم وبعد تسعين عاماً لا يزال الهدف هو ذاته, "إقامة رابطة مدنية لهذا العش الصغير", مثلما لا يزال استشعار الخطر الصهيوني عميقاً في نفوس الأردنيين.
إن الشعب الأردني, ومع إدراك التحول في مكوناته لا يزال يشعر بقلق على عشه الصغير من جهة, ومن خطر عدوه من جهة أخرى, وهو لم يتوقف عن العمل لإنشاء الرابطة المدنية. ذلك هو جوهر المسألة... والله أعلم.
(6)
لهذا نؤيد الاعتصامات والاحتجاجات والحركات ذات المحتوى الايجابي والسلمي واللائق بشعب ووطن نريد له موقعاً محترماً في هذا الكون. إننا نحاول أن نسهم في منع "نثر العش" الذي يقوم به الخصوم الحقيقيون لوطننا.