هل بقي أمل
هل بقي أمل!
أسوأ المقالات هي التي تكتب بإنفعال بعد معاناة مباشرة، وسوأتها تأتي من إنفعاليتها بالرغم من أنها قد تكون الأصدق. لذلك أجّلت الكتابة حتى تهدأ إنفعالاتي وأستطيع أن أكتب بعد جمع فسيفساء الموضوع بشكل أفضل. وهل أفضل من موضوع الساعة كي أكتب عنه، موضوع الإعتصامات والإعتداءات على المعتصمين، والإتهامات المتبادلة ما بين التخوين والفساد وإثارة الفتن وإلى آخره من لائحة طويلة من الإتهامات والتي تهبط إلى مستوى الشتائم في بعض الأحيان.
بدأت الحكاية في بعض المدن العربية، منذ أكثر من ثلاثة أشهر حين بدأت بعض الجماعات الشبابية تتحرك وتتجمع على أنظمة الشبكة العنكبوتية وبالذات على الفيس بوك للمطالبة بحريات أساسية منحها لهم الدستور، ثم مطالبات بوقف حالات فساد في الأنظمة ثبت أنها كلها فاسدة فعلا، ومطالبات بتطبيق المعنى العلمي والصحيح للمواطنة وهو المساواة بالحقوق والواجبات بين جميع أفراد المواطنين وثبت أنهم جميعا على حق إذ أن كل الأنظمة التي نشأت بينها الحركات والتجمعات تفتقر إلى أدنى أسس وشروط المواطنة.
نجحت بعض الحركات في تغيير النظام، وبعضها في طريقه إلى النجاح، ولن تكون المسألة أكثر من أيام معدودة لإنهاء عملية التغيير. بعضها يتململ، لكن التغيير حتمي وآت لا شك فيه، إذ أن ما يجري هو تيار هادر لا يقل عن تسونامي المياه والزلازل، لذلك لا بد أن يأتي بالنتيجة مهما أطيل أمد التأجيل.
وعود على الغاية الأساسية من هذا النص بمناقشة الوضع في الأردن وليس الوضع في مختلف الدول العربية. وحتى نصل إلى نتائج منطقية يجب أن نحلل الموضوع إلى عناصره الأساسية، وهي:
1. الفساد
2. تعديل الدستور
3. الأشخاص والهيئات المطالبة بالتغيير
4. الأشخاص والهيئات التي تقاوم التغيير
أما الفساد، وله أشكال عدة، إلا أنه يتلخص في استغلال منصب ما أو سلطة لتحقيق أهداف شخصية وثروة خاصة والحصول على مزايا أكثر من بقية المواطنين الآخرين خلافا لأسس المواطنة الحقيقية التي تفرض المساواة في الحقوق والواجبات أمام الجميع في وطن واحد. وهنا لا أحد ينكر أو يختلف مع البقية أننا نعيش وسط حالات هائلة وضخمة من الفساد والفاسدين ويعترف بذلك جميع مكونات هذا الوطن ابتداء من رأسه الممثل في جلالة الملك وانتهاء بأبسط مواطن فيه يعيش على مدخول بسطة، أو متقاعد يجلس متكوما في الظل على عتبة بيت أو زاوية شارع أو كرسي في مقهى عتيق. ولولا ذلك لما أسست لأجل كشفه ومحاربته هيئات حكومية وغير حكومية، ومحاكم نظامية على مختلف درجاتها القانونية، وزج القليلون بل النادرون في سجون (رمزية) وبتهم حتى (بنية) الفساد. لا شك أننا في الأردن نعاني من حالات فساد تصل إلى درجة الرعب ولا يختلف إثنان على ذلك لأن الفساد وصل إلى ثروات الوطن لأجيال قادمة، بل وأمواله ومدخراته. لقد استغلت هذه الفئة الفاسدة كل ثروات الوطن فباعته بأتفه الأسعار، حتى ثمن البيع عاد في أغلبه على تلك الجهات الفاسدة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، على شكل عمولات أورواتب ضخمة لا نسمع بها إلا في أحلامنا. بيع الفوسفات والبوتاس والموانيء الأرضية والجوية والإتصالات والكهرباء والغابات والجبال والأراضي الزراعية في الجنوب والشرق والغور في الغرب، بل واسمنته وصحاريه. حتى عاصمته بيع منها أراض شاسعة ولم يتبق ربما سوى القلعة والمدرج الروماني والدور عليهم آت لا ريب. لم يبق شيء إلا وبيع أو وزّع على أشخاص متنفذين هم أنفسهم الفاسدون، إما على شكل مصانع أو أراض تستغل للصناعة أو الزراعة وحتى على شكل مزارع خاصة بل وفلل فاخرة. جعلوا الوطن كله يبدو كقالب حلوى يقسمون منه كل يوم قطعة، يوزعونها على بعضهم البعض، وحتى الفتات لم يبقوه ولن يبقوه لأنهم يتصرفون كالراحلين، كالمهاجرين حين يجمعون أموالهم وأوراقهم ويصفّون ممتلكاتهم في طريقهم إلى موطن هجرتهم الجديد.
لا أحد يختلف في هذا الوطن على حقيقة هذه الصورة على شدة إيلامها ولا أحد ينكرها، حتى جلالة الملك يطالب بكشف ومحاربة الفاسدين ليلا نهارا وأعطى صلاحيات مفتوحة دون سقف محدد لضبط ومحاربة الفاسدين. وإن كنا على ثقة أنهم سيضبطون بعضا من حالات الفساد هذه وغيرها، إلا أنها ستكون كذر الرماد في العيون، ولن تطال أيديهم مكامن الفساد الكبير والهائل.
لقد خسرنا وطننا إلى غير رجعة ( من حيث المبدأ )، ولن نستطيع استرجاع ممتلكاتنا وثرواتنا إلا بقضايا قانونية معقدة، أو بالتأميم وذلك يضعنا في مواجهة مع أنظمة كثيرة في العالم.
أما المواطنة أي المساواة فلا أحد يختلف على أن الناس ما عادوا سواسية. أصبح الوزير يعين وبكل بجاحة لمدة شهرين أو ثلاثة بهدف تحسين وضعه المالي والإجتماعي، ثم ينقل من الوزارة بعد أسابيع قليلة ليتسلم إدارة أضخم المؤسسات بحكم أنه وزير سابق وبرواتب هائلة. أصبحت الأمور عندما تشير الأصابع لشخص في موضع المسؤولية، سرعان ما يتم تحصينه بموقع أعلى في إيحاء مباشر للجميع أنه ممنوع الإقتراب من هذا الشخص.
أصبح الموظف يقال من وظيفته في اليوم الأول ليعين بعقد في نفس وظيفته بعشرة أضعاف راتبه. أصبح يتصرف بالمال العام وكأنه حساب شخصي، يجوز الإنفاق منه برغبة وقرار فردي كما يقرر الواحد منا شراء سندويش أو قطعة ملابس.
وختاما لموضوع الفساد، فلا أحد في هذا الوطن ينكر جزء بسيطا أو كلمة واحدة مما سبق. أصبحت هذه الحقائق مسلمات يجب أن نتعاطى معها ونتعامل معها إما بالتكيف أو محاولة الإسترجاع وهذا ما لا نقدر عليه في ظل الظروف الحالية.
النقطة الثانية هي الدستور. ما يميز هذه النقطة أن كل المعارضين لتغيير الدستور لا يمكن أن يعارضوا بنود تغيير الدستور، إنما عندما توضع الأمور بفجاجة مثل عبارة ( الحد من سلطات أو التقليص من صلاحيات جلالة الملك ) فالجميع يرفض هذه العبارات لأنها فعلا تتعدى على رأس النظام وتنقص من هيبته وهو أمر مرفوض من الجميع، معارضة وموالاة، شيبا وشبانا، مثقفين وأميين، لا أحد يقبل أن يمس النظام لأنه رأس الأمة ويجب أن يظل منزّها عن كل عيب أو انتقاد أو خلاف. النظام يستمد سلطته من السلطة الإلهية للمؤمنين ومن السلطة المجتمعية لغير المؤمنين، وفي الحقيقة فإنه يستمد سلطته أيضا من الشعب الذي عقد له الولاية والبيعة إلا أنه عندما يحكم فإنه يحكم بسلطته الأصلية الإلهية أو المجتمعية. لا نختلف على ذلك بالمطلق.
إنما، من لا يقبل بأن تكون صلاحية حل مجلس الأمة بيد الحكومة؟ هذا هو الإجراء الطبيعي والذي وصلت إليه كل الدساتير المتطورة، بل هذا هو الإجراء الموجود في دستورنا قبل أن تطاله يد التعديل تحت ظروف معينة. العودة إلى الأصل هو الشيء الطبيعي والذي يجب أن لا نكون على خلاف عليه.
من لا يقبل بالمقابل أن يكون من يعطي الثقة للحكومة هو البرلمان الذي يراقب الحكومة فإن أخطأت حجب عنها أو عن بعض أعضائها الثقة بمعنى عزلها أو عزله.
يجب أن يظل رأس النظام منزّها عن كل خلاف بين الناس لأنه هو المرجعية في الحكم وهو من يوقع كل القوانين والأوامر الحكومية الأساسية. لا يجوز إجراء أي اتفاقيات سيادية أو أحكام خاصة كالإعدام مثلا إلا بتوقيع جلالة الملك. لكن عندما يعين جلالة الملك شخصا ما في موقع ما، فإن هذا الشخص يصبح مسؤولا عن تصرفاته ولا يعفيه من المسؤولية حتى لو تلقى الأوامر بتنفيذ أي قرار ما. لذلك يجب أن تكون صلاحية المحاسبة من صلب عمل النواب، وعندما تختلف الحكومة مع النواب تقوم الحكومة بحل مجلس النواب إلا أنه عليها أن تستقيل فورا، ثم يعين جلالة الملك حكومة جديدة بهدف محدد هو إجراء انتخابات برلمانية والتي بمجرد انتخاب أعضاء هذا المجلس يعيد الثقة للحكومة أو يحجبها. هكذا المسألة بين الناس الأقل من رأس النظام، هم يقتتلون ويختصمون ويسقط بعضهم بعضا بينما يبقى رأس النظام فوق، منزّها عن أي خصام أو خلاف. هل هناك من يختلف على ذلك! أليس المطالبين بتوريط رأس النظام هم من يريدون إضعافه والإقلال من هيبته؟
التعديلات الدستورية التي يطالب بها المعتصمون، هي أصلا للمحافظة على النظام وهيبته وليست إضعافا له أو تشكيكا به. الذين يرفضون تلك التعديلات ينافقون للنظام وبعضهم يعرف ذلك وما رفضهم إلا نية خبيثة مبيتة بهدف الإساءة للنظام.
النقطة الثالثة هي الأشخاص المطالبون بالتغيير. للأسف فإن الأمور تختلط فيما بينهم وهذا ما أدى إلى محاربتهم وضربهم وقتلهم وما جرى بسيط لما هو آت. هم مجموعتان، مجموعة تضم ما بينها فئة من مثقفين ويساريين وما اصطلح عليه بالمعارضين وهم كما أسلفنا معارضون لأجل المصلحة وليسوا معارضين لأشخاص. ثم مجموعة الأحزاب الدينية. الخطر في هاتين المجموعتين هي الأحزاب الدينية لأنها لا تعترض بهدف إنشاء دولة مدنية دستورية، وإنما تهدف إلى إنشاء دولة دينية وهذا ما يشكل خطرا على المجتمع بكل مكوناته. الدولة الدينية التي يسعون إليها هي دولة الرجم وقطع الأيدي، هي دولة الدماء والأسياط. هي دولة بلا سياحة، هي دولة بلا حريات، هي دولة الطيف الواحد حتى يقتتلون مع بعضهم البعض وهم لا بد فاعلون. لدينا أمثلة عديدة في السعودية وأفغانستان والعراق والجزائر في فترة من الفترات.
هذه الجماعة تتسلق على ظهور المجموعة الأخرى وتنضم إليها في كل مكان تذهب إليه وتلاحقه كالدبس، تتلون بالشعارات فتارة تريد إسقاط النظام وتارة تهتف للأردن والنظام وتارة يرقصون بالدبكات الشعبية وتارة يهتفون بالأناشيد الدينية.
يجب على كل المجموعات الأخرى أن تنتبه إلى الفرق الهائل بين الوطنيين الذين يحاربون الفساد، ويريدون تغيير جزء من النظام بما يحمي النظام ويحافظ على هيبته، وبين المجموعات الدينية التي تهدف إلى إنشاء دولتها الدينية وليس الدستورية. الدولة الدينية التي تحتوي على مكون واحد وتنبذ الآخر بالمطلق، وبين الدولة الدستورية التي يعيش فيها الجميع يمارسون دياناتهم وعقائدهم ومعتقداتهم وكل ما يريدون بناء على الحرية الشخصية المصانة من قبل الدستور. الدولة الدينية التي يريدون ليس فيها سجونا ولا مراكز إصلاح ولا علاجا نفسيا. ليس لديهم علاجا للمخطئين إلا قطع الأيدي والرؤوس والرجم والجلد. لا يعرفون السجون أو طرق الإصلاح النفسية أو العلاج بالدواء. لم تصلهم الحضارة بعد بطرق إصلاحها للمجتمع ولا حتى العلوم. تتركز علومهم في نواحي شرعية محددة فمن نالها نال الخير كله.
يجب على الوطنيين والمثقفين أن ينتبهوا لهذه النقطة ولا يسمحوا للجماعات الدينية بالإنضمام إليهم لا في هتافاتهم ولا اعتصاماتهم أو أماكن تواجدهم. وليكن أول طلباتهم إيجاد مكان لهم يعتصمون به بحماية الأجهزة الأمنية وبعلمها وتحت أعينها. تم طردهم من شارع طلال ثم من دوار الداخلية، فأين يذهبون؟ أجزم أنه لا مكان ضمن حدود الأردن تسمح لهم فيه تلك الجهات بالإعتصام وإلا... فلتسمه ولتحدد موقعه.
النقطة الرابعة الأشخاص والهيئات التي تقاوم التغيير، وهم كما أسلفنا إما ينافقون لرأس النظام دون تفكير بمصلحتهم الوطنية أو حتى بمصلحة الوطن، وإما مأجورين ومدفوعين لإبداء هذه المعارضة.
باستعراض كثير من صور الفيديو للأحداث التي حصلت الخميس الماضي، يثير الإستغراب شكل وهيئة من تهجموا على المعتصمين بهذه الوحشية. لا يمكن أن تجد بينهم واحدا تعدى عمره الخامسة والعشرين. لا يبدو على أي منهم أنه درس في الجامعة. حتى قبل الإشتباك، صورهم تثبت أنهم أتوا بالهراوات والحجارة. كانوا يروحون ويجيؤون، يخفون الحجارة بأيديهم المعقودة خلف ظهورهم، لافتات الشوارع، تنقلات جماعية مرتبة، يستحيل أن يكون كل ذلك عملا فرديا وخلافا بعد نقاش كما صورت لنا الأجهزة الرسمية. كان عملا مدبرا مرتبا كل حجر فيه وكل ضربة هراوة.
طبعا هم أنفسهم من هاجموا المسيرات في شارع طلال، وهم أنفسهم التجار الذين شكوا من تضرر أعمالهم في شارع طلال وفي دوار الداخلية، وكأن هؤلاء التجار لهم فروع في كل شارع من شوارع العاصمة. لم تسفر ألتحقيقات الأولى عن كشف أي منهم بالرغم من أنه قيل للإعلام أنه تم ضبط غالبيتهم وبقي إثنان فقط، ولن يتم كشف أي واحد منهم. ليس لعجز في المحققين ولكن... لأن من كلّفهم بهذه المهمة هو من تستّر عليهم، وهو من زوّر لهم في الإنتخابات وهو من ولاهم المناصب.
شخصيا لا أبريء الجهة التي نظّمتهم من أنها هي التي تتآمر على الوطن. تريد زرع الفتنة والفرقة بين الناس، وتريد لفت أنظار الجميع عن القضايا الأعمق والأخطر كالتوطين والتجنيس، وربما من يحركهم هم مافيا الفساد التي تريد لفت الأنظار عن قضايا الفساد الكبرى عنهم.
لا شك أنه كان عملا معيبا في ذاكرة الوطن. ولا شك أنهم لن يكرروا الفعلة إن لم توجههم جهة ما. ولا شك ثالثا أنني لست الوحيد الذي يجزم بذلك ولكن غالبية الناس تعرفه أيضا.
وأخيرا، كلنا مع الوطن، المعتصمون والمهاجمون لكن الكل يتناول الموضوع من زاويته الخاصة. لا أحد يزاود على أحد. كلنا أو على الأقل الغالبية العظمى منا هاشميون ولا يستبدلونهم بكل ملوك الأرض.