وسطية الخطاب.. وتطرف المواقف

في أحاديث الساسة والمنظرين، وخطباء المناسبات، والكُتّاب، كلام كثير جميل عن الوسطية والاعتدال وتقبل الآخر، بحيث أصبحت الجمل والتعبيرات بهذا الشأن مكونا أساسيا للأدبيات التي يستخدهما الجميع هذه الأيام، بلا تردد أو تفكير.
لكن الوسطية واحترام الاختلاف وتقبل الآخر، ليست عبارات إنشائية نستخدمها في مقالاتنا وخطبنا ومحاضراتنا التي اشتدت الحاجة إليها مع تنامي الوعي بخطورة التطرف على حاضر مجتمعاتنا، وموقعنا ومواقفنا بين الأمم والحضارات، بل هي مبادئ ومعتقدات واتجاهات ومواقف وممارسات تتوافق وفطرة الإنسان، ومدنيته التي طبع عليها.
في حديثنا عن الوسطية والاعتدال، ينبغي التفريق بين بعض مظاهر المجاملة والمسايرة اللفظية التي اعتاد عليها الأفراد والجماعات في مجتمعاتنا، وبين المعتقدات والأفكار والاتجاهات التي يحملها الأفراد وتؤثر في مواقفهم ومشاعرهم وسلوكهم وتقييمهم للأفراد والجماعات المختلفين عنهم.
يعتقد البعض أن مجتمعاتنا وسطية ومتقبلة للتنوع والاختلاف بدرجات تفوق فيها المجتمعات الإنسانية الأخرى. ويتخذ هؤلاء من الأدبيات التي نتداولها، والقصص التي نحكيها لأنفسنا عن أنفسنا، مؤشرا على شيوع قيم قبول الآخر والوسطية والاعتدال.
ومع الإقرار بوجود مستوى من التقبل لدينا بدرجة معقولة، إلا أن السلوك الظاهر لا يتعدى قشرة سطحية، ما تلبث أن تكشف عن معتقدات وأفكار واتجاهات فيها من الاستعلاء والتعنت والازدراء للآخر الكثير.
ففي ثقافتنا، يجامل الناس بعضهم تحت وقع الإكراه الاجتماعي، والتقليد لنمط سلوكي يحظى برعاية عامة، ويجهد الإعلام في إبرازه والتركيز عليه. أما من الناحية الفعلية، فلا تختلف تركيبة المجتمع الأردني وقيمه عن تركيبة وقيم المجتمعات العربية المجاورة.
وبلا استثناء، ما تزال الجماعة هي الوحدة الأساسية للمجتمعات العربية التي يُعرّف الفرد بها، وتُسقط مكانتها وتراثها وهويتها على وجوده، بحيث لا يمكن الفصل بين الفرد وجماعته، كما في المجتمعات الفردية. وتُخضع الجماعة أفرادها لمنظومتها القيمية، وتعمل على تطبيعه وضبط سلوكه من خلال آليات متعددة، تأتي في مقدمتها الأسماء والنعوت والألقاب التي تعطى لكل فرد بهدف الضغط على إرادته وإخضاعها فيما إذا حاول أن يمارس الحرية، أو أن يعبر عن فرديته. والاستغابة سلاح فتاك تستخدمه الجماعات لاغتيال شخصيات من يُبدون خروجا عن القيم والأفكار والتقاليد السائدة، أو يحاولون التعبير عن فرديتهم واختلافهم مع من هم حولهم.
العنف اللفظي لا حدود لاستخدامه في الشارع والحي والعمل، وحتى في المؤسسات التربوية. الطلبة يأتون إلى الجامعات بهوياتهم الفرعية السابقة على التحاقهم بالجامعة، ويرفضون أن يعيروا أنفسهم للمؤسسة، أو أن يغيروا طرق تعاملهم، أو التنازل عن قيمهم القبلية والطائفية؛ فتنفجر في الحرم الجامعي عشرات المشاجرات لأتفه الأسباب؛ لا لشيء، بل لأن الجميع يرفضون التنازل عن قيمهم وأفكارهم، ويستمرون في النظر لأنفسهم وجماعتهم على أنها الأفضل والأجدر والأهم. الناس يسبون بعضهم في الشوارع والجميع ينتقد الجميع.
في كثير من الميادين، تُستبعد غالبية الناس، وتسلب حقوقهم في المشاركة في صناعة القرارات التي تملى عليهم، ويطالبون بالانصياع لها نتيجة لتطرف كثير من صناع القرارات في استخدام سلطاتهم. وفي مثل هذه الأوضاع، تنتشر هذه الممارسات بين الجميع؛ فيستبد كل صاحب سلطة أو دور في تنفيذ قراراته على تابعيه، من دون مراعاة لحقهم في الاقتراح والاختلاف والمشاركة.
في الديمقراطيات الراسخة، يبقى الاختلاف طبيعيا في كل شيء، إلا أن الافراد يتفقون على أساليب إدارة اختلافاتهم، ويحتكمون للقوانين التي تُصاغ وتُعدل تبعا لإرادة الأغلبية، وليس مصالح مجموعة تحتكر آلية صياغة القوانين وإنفاذها.
يحزنني أن أرى المتطرفين في احتكار المنافع وإقصاء الناس، يتحدثون عن ثقافة الوسطية والاعتدال، وأهمية نشرها، للوقوف في وجه التطرف والإرهاب. وأستذكر في هذا المقام ما قاله المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية باري غولدووتر في وصف خطر الانغلاق والتعصب وكراهية الآخر: "إن أخطر ما في التطرف ليست القصص التي يرويها المتطرفون عن أنفسهم وقضاياهم.. وإنما تكمن الخطورة فيما يقولونه عن غيرهم".
نعم، إن من السهل التعرف على الفئات التي تعزل نفسها، لتبني ما تعتقد أنه مجتمع عادل لنفسها؛ معتقدة بنبل فكرها وسلامة مسعاها، ومحاولة إخضاع الآخر المختلف بكل وسائل القهر والعنف، وربما الإبادة. لكن مواجهة خطورة هذه الجماعات ووقف تمددها لا ولن يتما بالخطب والمحاضرات والندوات التي يتصدرها أشخاص إقصائيون لمن يختلفون معهم في الفكر أو الاجتهاد، وتتمحور ممارساتهم على خدمة أنفسهم، من دون مراعاة لأهمية الانفتاح والاستيعاب والمشاركة للمكونات كافة، بما يراعي حقوقها في المشاركة والكرامة والاستمتاع.