كيف تقرأ هذه التحولات؟

ما يقوم به "مطبخ القرار" في عمّان، حالياً، هو قراءة التحولات والتطورات الإقليمية المكثّفة الجارية من حولنا، وفيما إذا كان ما يزال ممكناً التمسّك بالمقاربة الأردنية التي تمت صياغتها بصورة متدحرجة خلال الأعوام الأخيرة؟
تلك "المقاربة" تنتمي إلى استراتيجيات المعسكر المحافظ العربي عموماً. فعلى الصعيد العام، يتمثل التحدي الرئيس في حركات الإسلام السياسي عموماً، بالتزاوج مع المحور التركي-القطري، مع الجمع بين هذه الحركات في الحزمة نفسها؛ أي "الإخوان" و"القاعدة" و"داعش".
في مرحلة لاحقة، ومع سيطرة تنظيم "داعش" على الموصل، تطوّرت المقاربة الأردنية باتجاه الانخراط في الحرب على الإرهاب، ثم إعادة هيكلة السياسة الخارجية الأردنية عموماً ليكون هذا الموضوع؛ الحرب على "داعش"، هو المحور الرئيس الذي تدور حوله. وتعزّز ذلك بصورة أكثر وضوحاً وجديّة مع استشهاد الطيار معاذ الكساسبة، فأصبح الأردن رأس حربة في هذه الحرب.
إلى تلك اللحظة، كانت الأمور تسير باتجاه واضح. ورأينا حجم الدور الأردني على الصعيدين العربي والعالمي، يكبر ويتضخّم، بوصف الأردن الممثل العربي الأبرز في الحرب على الإرهاب. وكانت "التباينات" العربية تجاه الموقف من النظام السوري والقلق من النفوذ الإيراني بمثابة أمر ثانوي، يمكن القفز عنه وتجاوزه.
على هذا الأساس، جاء الجهد الأردني المكثف للتحضير لمؤتمر الأزهر لمكافحة الإرهاب، والذي كان من المفترض أن يُعقد في الأزهر في الأشهر القليلة الماضية. وجرى الحشد له بصورة كبيرة، واستمزاج العديد من الحكومات، وبناء دعاية إعلامية وسياسية مسبقة. إلاّ أنّ زخم هذا الحديث والاهتمام به تراجع كثيراً، وبدا واضحاً أنّ ذلك انعكاس للتحولات الجوهرية في المقاربة السعودية تجاه ملفات المنطقة؛ تلك التي ظهرت في الدخول بصورة مباشرة في الحرب على الحوثيين في اليمن.
"عاصفة الحزم" جاءت بوصفها "نقطة تحول" وترجمة لمؤشرات التغير في الموقف السعودي، والمراجعات التي دارت في أروقة القرار في الرياض، وتمخّضت عنها العودة إلى "المقاربة التقليدية" السعودية، وتتمثّل في اعتبار التهديد الإيراني رقم 1، و"داعش" معه رقم 2، وبالتالي التراجع عن استراتيجية مكافحة الإخوان المسلمين بوصفها رقم (1). بل حدث ما هو أهم من ذلك، وبما يعتبر تخلياً ضمنياً عن المقاربة السابقة، وهو التقارب السعودي-التركي-القطري الملحوظ، وإصلاح الأوضاع مع حزب الإصلاح (الإخوان المسلمين) في اليمن.
التحول السعودي تكرس مع القمة العربية في شرم الشيخ، وهي التي كشفت حجم التباين بين الدولتين. ففي حين ما يزال الخطاب الأردني يرى في "داعش" الخطر الأول، ويدفع نحو المشاركة في الحرب على الإرهاب أكثر فأكثر، ما بدا واضحاً في كلمتنا في القمة، فإنّ الخطاب السعودي دفع باتجاه أولوية مكافحة الحوثيين ومواجهة النفوذ الإيراني.
وفقاً لمصادر دبلوماسية مقرّبة من "مطبخ القرار" في الرياض، فإنّ قراراً اتخذ بتجميد الخلافات العربية في أثناء "عاصفة الحزم"، إلى أن تتضح الصورة تماماً. فبالنسبة للسعودية، هذه المعركة مهمة جداً على أكثر من صعيد: الأول، قوة وفعالية وشرعية النخبة الحاكمة الجديدة (بخاصة الجيل الثالث؛ الأمير محمد بن سلمان والأمير محمد بن نايف). والثاني، الأمن الوطني السعودي. والثالث، القدرة على التفاعل مع التحولات الإقليمية المهمة والخطرة، مثل تنامي النفوذ الإيراني من جهة، والصفقة الإيرانية-الأميركية من جهة أخرى.
من يراقب الدبلوماسية الأردنية، يلاحظ أنّ هناك هبوطاً مقصوداً وتحجيماً ذاتياً للدور الإقليمي الأردني، إلى أن تتضح الصورة الإقليمية أكثر، وينجلي شيء من غبار المعارك في اليمن والعراق وسورية.