«تيتانيك» البحرالميت

من شاهد فيلم «تيتانيك» ،الذي يروي قصة كارثة غرق السفينة البريطانية العملاقة التي تحمل نفس الأسم ،في مياه المحيط الاطلسي عام 1912، في أولى رحلاتها الى نيويورك ،ومات فيها نحو 1500 شخص ، يستطيع أن يتخيل،البطولة الخارقة التي قام بها الوكيل عمر يوسف البلاونة، في إنقاذه الطفلين العراقيين الشقيقين « مريم وماهر».
وإذا كان فيلم «تيتانيك» قد أبكى العالم ،لما تضمنه من أحداث تراجيدية ممزوجة بالرومانسية ،فإن عملية إنقاذ الطفلين تقدم مادة جاهزة «صناعة أردنية « بامتياز، لمن يمتلك خيالا خصبا من الروائيين وكتاب السيناريو وشركات الانتاج،لتوثيق الجهد والمعاناة والأخطار الهائلة، التي رافقت رحلة عمر مع الطفلين ، على مدى 11 ساعة متواصلة في كتابة وإنتاج عمل فني ، يمكن تسميته ب» تيتانيك البحر الميت»، من بطولة عمر ومريم وماهر ،يروي قصة أشهر عملية إنقاذ ربما في العالم ،يقوم بها شخص واحد ،على مدى ليلة طويلة جدا ،متحديا غضب أشهر بحر «البحر الميت «
كان المنقذ عمر جنديا مجهولا من بين أفراد الدفاع المدني، وهو الجهاز الذي يحظى بقيمة مميزة في وجدان الناس ، نظرا لطبيعة الدور والمهام التي يقوم بها ،من عمليات إسعاف للجرحى والمصابين والمرضى ،وإنقاذ للغرقى وإطفاء للحرائق..الخ، وفجأة شاء القدر أن تتاح لعمر» فرصة العمر»، ليسجل نموذجا نادرا في التضحية ،يصلح أن يكون درسا يروى للاجيال ، فالبطولة لا تقتصر على جبهات القتال ،ومن أهم البطولات في الحياة تلك المتعلقة بالجوانب الانسانية.
لم يكن أحد يراقب عمر، وهو يصارع أمواج البحر ،في عتمة الليل وبعيدا عن الانظار،وهو يبحث عن الطفلين ، اللذين سحبهما الموج الى المجهول. كان بإمكان عمر أن يعود ويقول أنه لم يعثر عليهما ،لكنه أصر على المغامرة ، ومصارعة الموج الهائج واحتضان الطفلين ،والحرص على أن لا يناما، وأن لا يبتلعا مياه البحر المالحة ،أو أن يدخل الماء في عيونهما ، ويتحدث معهما للتخفيف عنهما من هول الرحلة ، طيلة أحدى عشرة ساعة ، ولمسافة سبعة عشر كيلو مترا ،الى أن وصل بالطفلين الى شاطئ مدينة أريحا،في الضفة الغربية.
ولنتخيل الجهد الهائل الذي بذله هذا الشاب ، وأي إرادة كان يتسلح بها في تحديه للامواج الهائجة ، في مهمة قد تعجز عنها سفينة إنقاذ ! ربما يصلح أن نستعير عنوان رواية الراحل مؤنس الرزاز «أحياء في البحر الميت « لوصف هذا «الفيلم الطويل « ، فحتى والدة الطفلين فقدت الأمل ،بعد انتظار ليلة كاملة ، تعادل عمر الطفلين.
كان البعد الانساني والشهامة فقط ، المحرك الوحيد للمنقذ عمر،وهو لا يرتبط بعلاقة قربى بالطفلين ، فلا هما ولداه أو شقيقاه ، وليسا من أقاربه ، وغير أردنيين بل من جنسية عربية ، ولم يفكر بغير إنقاذ حياة الطفلين ومشاعر والديهما.وهذه ثقافة وسلوك انساني ينبغي تعزيزهما ونشرهما على أوسع نطاق ،بعد أن تفشت في مجتمعنا ثقافة الكراهية والانانية و«اللهم نفسي ومن بعدي الطوفان».
هذا عمل يفوق ما يفعله أبطال السباحة الدوليون ، يضاف اليه القيمة الانسانية، وقد تم تكريمه من قبل جلالة الملك ومديرعام الدفاع المدني ،وهذه العملية تصلح أن تسجل في «كتاب جينتس»،ويجدر بالجهات المعنية بالاعمال الانسانية في العالم ،الالتفات الى هذا العمل الذي يقترب من المعجزة.
قد تكون البيئة التي نشأ فيها عمر، أثرت في تعزيز البعد الانساني لديه واستعداده للتضحية ، ولمن لا يعرف فهو من منطقة البلاونة في الاغوار الوسطى، التي تخترقها قناة الملك عبدالله ، التي ابتلعت منذ نهاية التسعينيات ،أكثر من مئة شخص غرقوا فيها ،غالبيتهم العظمى من الأطفال ،وكان آخر ضحايا القناة كارثة عائلة كاملة ، قضى فيها أب وزوجته وأطفالهما الثلاثة ،خلال شهر شباط الماضي ، بعد أن سقطوا بسيارتهم داخل القناة في الشونة الشمالية ، وربما كانت حوادث الغرق هذه حاضرة في وجدان عمر.