وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون

وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون

عطف على جملة تكذبون بالدين تأكيدا لثبوت الجزاء على الأعمال .

وأكد الكلام بحرف إن ولام الابتداء لأنهم ينكرون ذلك إنكارا قويا .

و لحافظين صفة لمحذوف تقديره : لملائكة حافظين ، أي : محصين غير مضيعين لشيء من أعمالكم .

وجمع الملائكة باعتبار التوزيع على الناس ، وإنما لكل أحد ملكان ، قال تعالى : إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ، وقد روي عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - أن لكل أحد ملكين يحفظان أعماله ، وهذا بصريح معناه يفيد أيضا كفاية عن وقوع الجزاء ، إذ لولا الجزاء على الأعمال لكان الاعتناء بإحصائها عبثا .

وأجري على الملائكة الموكلين بإحصاء أعمالهم أربعة أوصاف هي : الحفظ ، والكرم ، والكتابة ، والعلم بما يعمله الناس .

وابتدئ منها بوصف الحفظ ; لأنه الغرض الذي سبق لأجله الكلام الذي هو إثبات الجزاء على جميع الأعمال ، ثم ذكرت بعده صفات ثلاث بها كمال الحفظ والإحصاء ، وفيها تنويه بشأن الملائكة الحافظين .

فأما الحفظ : فهو هنا بمعنى الرعاية والمراقبة ، وهو بهذا المعنى يتعدى إلى المعمول بحرف الجر ، وهو ( على ) لتضمنه معنى المراقبة . والحفيظ : الرقيب ، قال تعالى : الله حفيظ عليهم .

وهذا الاستعمال هو غير استعمال الحفظ المعدى إلى المفعول بنفسه فإنه بمعنى الحراسة نحو قوله يحفظونه من أمر الله . فالحفظ بهذا الإطلاق جمع معنى الرعاية والقيام على ما يكون إلى الحفيظ ، والأمانة على ما يوكل إليه .

وحرف على فيه للاستعلاء لتضمنه معنى الرقابة والسلطة .

وأما وصف الكرم فهو النفاسة في النوع كما تقدم في قوله تعالى : قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم في سورة النمل .

فالكرم صفتهم النفسية الجامعة للكمال في المعاملة وما يصدر عنهم من الأعمال ، وأما صفة الكتابة فمراد بها ضبط ما وكلوا على حفظه ضبطا لا يتعرض للنسيان ولا للإجحاف ولا للزيادة ، فالكتابة مستعارة لهذا المعنى ، على أن حقيقة الكتابة بمعنى الخط غير ممكنة بكيفية مناسبة لأمور الغيب .

وأما صفة العلم بما يفعله الناس فهو الإحاطة بما يصدر عن الناس من أعمال وما يخطر ببالهم من تفكير مما يراد به عمل خير أو شر وهو الهم .

و ما تفعلون يعم كل شيء يفعله الناس وطريق علم الملائكة بأعمال الناس مما فطر الله عليه الملائكة الموكلين بذلك .

ودخل في ما تفعلون الخواطر القلبية ; لأنها من عمل القلب أي : العقل فإن الإنسان يعمل عقله ويعزم ويتردد ، وإن لم يشع في عرف اللغة إطلاق مادة الفعل على الأعمال القلبية .

واعلم أنه ينتزع من هذه الآية أن هذه الصفات الأربع هي عماد الصفات المشروطة في كل من يقوم بعمل للأمة في الإسلام من الولاة وغيرهم ، فإنهم حافظون لمصالح ما استحفظوا عليه ، وأول الحفظ الأمانة وعدم التفريط ، فلا بد فيهم من الكرم وهو زكاة الفطرة ، أي : طهارة النفس .

ومن الضبط فيما يجري على يديه بحيث لا تضيع المصالح العامة ولا الخاصة بأن يكون ما يصدره مكتوبا ، أو كالمكتوب مضبوطا لا يستطاع تغييره ، ويمكن لكل من يقوم بذلك العمل بعد القائم به ، أو في مغيبه أن يعرف ماذا أجري فيه من الإعمال ، وهذا أصل عظيم في وضع الملفات للنوازل والتراتيب ، ومنه نشأت دواوين القضاة ، ودفاتر الشهود ، والخطاب على الرسوم ، وإخراج نسخ الأحكام والأحباس وعقود النكاح .

ومن إحاطة العلم بما يتعلق بالأحوال التي تسند إلى المؤتمن عليها بحيث لا يستطيع أحد من المغالطين أن يموه عليه شيئا ، أو أن يلبس عليه حقيقة بحيث ينتفي عنه الغلط ، والخطأ في تمييز الأمور بأقصى ما يمكن ، ويختلف العلم المطلوب باختلاف الأعمال فيقدم في كل ولاية من هو أعلم بما تقتضيه ولايته من الأعمال وما تتوقف عليه من المواهب والدراية ، فليس ما يشترط في القاضي يشترط في أمير الجيش مثلا ، وبمقدار التفاوت في الخصال التي تقتضيها إحدى الولايات يكون ترجيح من تسند إليه الولاية على غيره حرصا على حفظ مصالح الأمة ، فيقدم في كل ولاية من هو أقوى كفاءة لإتقان أعمالها وأشد اضطلاعا بممارستها .