الصحافة الورقية.. آخر ما يذكرنا بالزمن الجميل

في ستينيات القرن الماضي، يوم كانت النظم السياسية في بلدان العالم الثالث تتساقط مثل أوراق الخريف، وكان النضال الفلسطيني على أشده، كانت أخبار أي جريمة قتل تهز القراء الذين ينتظرون صدور الصحف عند فجر كل يوم، ويجري توزيعها على الألوية الأردنية مع أول سيارة من سيارات الأجرة المنطلقة صوب العقبة والطفيلة ومعان، على أمل أن تصلها قبل الظهيرة على أسرع تقدير.
في شوارع عمان العتيقة، وقبل أن يصبح فيها شارع للصحافة، كانت تطبع صحيفتا "الدفاع" و"الصباح"، وبعدهما صحيفة "الدستور". كان ذلك قبل ظهور "الرأي" التي صدر أول أعدادها في مطلع السبعينيات، متخذة لنفسها منزلا على الطريق الواصل بين عمان والجبيهة.
ما إن تهبط إلى قاع المدينة الذي كان يعج بالحياة قبل ظهور مراكز متعددة في الأحياء الأكثر ثراء -في جبل الحسين وجبل عمان، ولاحقا في عبدون والصويفية وغيرها من الأحياء- حتى يقابلك باعة الصحف الذين تتعالى أصواتهم وهم يستعرضون عناوينها، وأبرز ما تضمنته لهذا الصباح، بإيقاع لا يختلف عن مناداة زملائهم من باعة التفاح والعنب، وبقية الخضار في السوق التي تتوسط قلب المدينة.
"انقلاب عسكري في العراق" أو"أبشع جريمة قتل في الزرقاء".. كانت نداءات تكفي لنفاد كل النسخ التي في حوزة البائع خلال أقل من ساعة. وأخبار تعيينات المعلمين والمعلمات، ونتائج الثانوية العامة، كانت تعفي البائعين من عناء المناداة على العناوين، وتحفز القراء على التدافع إلى زوايا الأرصفة التي عرضت فيها الصحف. وبعض القراء الفضوليين أو من لا يملكون ثمن الصحيفة، كانوا يتوقفون لتصفح العناوين واقفين أو جالسين، بعد أن يستأذنوا البائع، أو يعرضوا عليه الوقوف مكانه ريثما يلبي بعض حاجاته.
صحيفتا "الدفاع" و"الصباح" أغلقتا في نهايات الستينيات، وبقيت "الدستور"؛ قبل أن تؤسس "الرأي" لاحقا، وتظهر "صوت الشعب" و"الأخبار" و"العرب اليوم" و"الغد"، وبعض صحف أخرى كانت تظهر لفترة، ثم ما تلبث أن تنطفئ.
غالبية الأخبار التي تكتب كانت مثل المنتجات البلدية؛ بلا محسنات ولا تأثير للشركات الداعمة، ولا مراعاة لمشاعر جار هنا أو صديق هناك. ولم يكن كثير من الكتاب والصحفيين قد خضعوا لعمليات تدجين وتطويع، فقد كان غالبيتهم بريين أو متأثرين بالأحلام الثورية التي كان يغص بها الفضاء العربي.
الصحافة الورقية اليوم في أزمة، تستدعي من إداراتها التوقف عندها طويلا. فمن ناحية المحتوى، لم يعد الكثير من الصحف يلبي حاجة القراء والمتابعين، وتوقف عند كونه منصة لإطلاق المقالات الموجهة لجمهور معين، عند مفاصل وأحداث معينة. ومن جانب آخر، أصبح القراء يعتمدون على مصادر أخرى للحصول على الأخبار والروايات والآراء والتحليلات.
في ظل هذا الواقع، نشأت علاقات عضوية بين الحكومات والصحافة؛ حيث تعمل الأولى على اختيار إدارات صحف من خلال الصناديق التي تديرها وتغذي بقاءها بالإعلانات، على أن تلتزم هذه الصحف بخطوط عامة لا تتجاوزها. ونتيجة لذلك، اختلّت هويات الصحف شبه الرسمية (الرأي والدستور)؛ فلا هي شركات تطور آلياتها بما يناسب القراء وللمنافسة في السوق، ولا هي مؤسسات غير ربحية، يعترف بأن لها رسالة تتمثل في نقل خطاب الدولة وبناء الدعم والتأييد لسياساتها.
"الرأي" لا يمكن النظر إليها على أنها شركة على عتبات الإفلاس؛ ويصعب الاستمرار في تدوير مجالس إدارتها. و"الدستور" مؤسسة عاشت مع الأردن منذ سبعة عقود، ولا ينبغي التعامل معها على أنها شركة لم تحقق أرباحا كافية. وأظن أن على الدولة إما رفع يدها عن هاتين الصحيفتين تماما، وإما التعامل معهما على أنهما مؤسستان وطنيتان، فتحسن اختيار إداراتهما، وتسمح لهما بهامش لتطوير أساليب عملهما، وتتوقف عن فرض الكتاب والموظفين ومجالس الإدارة عليهما.
"الرأي" ضمت بين صفوفها كتابا ومفكرين، وتابعها القراء. ويمكن أن يتحول مركز دراساتها إلى مركز أبحاث يعمق معرفتنا بالواقع، ويؤسس لعلاقة أكثر إيجابية بين الدولة ومكوناتها التنفيذية والتشريعية، والأحزاب والمنظمات الأهلية وغيرها.
لا يمكن أن يستمر الوضع من دون مراجعة، تتحدد فيها الأدوار والمهام والعلاقات والمسؤوليات؛ فالرأي والدستور اسمان لهما دلالات.