يعقوب زيادين ودمعة جمال أبو حمدان


كانت رحلة الحياة اقصر من الطريق بين السماكية والقدس , كما كانت الطريق الى عمان اطول , قبل ان نلتقيه كجيل شاب سمعنا الكثير من القصص عنه , ولعل قصة زيارة ابيه الى ساحة المسجد الحسيني هي اكثر القصص انتشارا , ربما لظروف سياسية , حيث خلاصة القصة تكشف ان حزب الطبقة العاملة غير معروف عند الطبقة نفسها , والقصة تقول ان والد يعقوب زيادين زاره في سجن المحطة وسأله عن سبب سجنه فقال له: من اجل الطبقة العاملة والعمال ,فما كان من الاب إلا أن زار ساحة المسجد الحسيني التي كانت مكانا لتجمّع العمال فسألهم عن الدكتور يعقوب زيادين , فلم يعرفه احد وفي الزيارة التالية اخبره بأن العمال لم يتعرّفوا عليه فلماذا كل هذا التعب ؟
يعقوب زيادين صاحب البدايات دائما رحل في بداية جديدة لنهاية عمره الممتدة من الكرك الى بيروت الى القدس نائبا وبعدها امينا عاما للحزب الشيوعي خلفا للرفيق فايق ورّاد , وشهد الحزب في عهده انشقاقات وتباينات مع رفيقه عيسى مدانات , ظل خلالها يعقوب زيادين رمزا يساريا وسنديانة وطنية باسقة , لا يخجل في الحق ولا يداهن في الموقف وهو الذي خالف الجميع بإدانته غزوة الكويت من العراق يوم كانت الساحة تموج بدعم الشهيد صدام حسين.
ابوخليل دمعته حارة كما تقول الجدات وهذا يعني انه سيجذب معه رفيقة الى الموت وهذا ما كان حين فجعنا برحيل جمال حمدان بعد رحلة مع السرطان في بلاد الغربة , فأبت دمعته الا ان تكون حارقة وابى جمال الا ان يرافق ابا خليل الى الدار الآخرة , لننعى معا رفيقين اسهما في رفد الحياة السياسية والثقافية بكل الالق وكل الابداع , فجمال قضى عمره مسرحيا وقاصا , وقضى في الصحافة وقتا غير قصير اسعدني باسم سكجها ذات مسائية برفقته في ملحق مهرجان جرش , كانت التجربة قصيرة وكانت فرصة لسؤاله عن صخب الابداع تحت هذا الوجه الهادئ , ويومها ضحك وقال اسأل باسم .
ابو خليل وابو توفيق رحلا بدمعة واحدة , فهما يتقنان احترام الوقت والحياة ودمعة ساخنة تكفي لوداع شيخين في الادب والسياسة وسط ظروف قليلة الادب ومعادية للسياسة , فاليساري الذي عبر ارستقراطية القدس بنجاح في الانتخابات خذلته اللحظة السياسية في العام 1989 وجمال الذي رفد المسرح بكل جميل مات على خشبة غريبة عن وطن حضن ملايين اللاجئين وحضن ملايين الشواهد وضاق بقبرجمال وبمقعد يليق بيعقوب زيادين .
لم أكن عضوا في الحزب الشيوعي يوما ولكن عشت تفاصيل الحزب مع رفاق قضينا معا وقتا في الجامعة وفي بيوت الاحزاب السرية , وكان احمد أبو شاور اول الإطلالة على يعقوب واكمل المسيرة خالد ابو شميس ومجدي الطل , فحملت للرجل ودا خالصا , ويوم التقيته ذات انتخابات مقابل سوق شاكر في مكتب احد الرفاق شعرت بصدق ما قاله جميع الرفاق وشعرته اقرب من بداياته التي قرأتها على خوف وعجل خشية المساءلة والاعتقال .
في حين جالست جمال طويلا واقتربت منه اكثر ورغم شقاوتي التي جعلتني سكرتيرا للتحرير معه إلا انه بقي على وقاره كما رشاد ابو داود لكنهما منحاني فرصة الشقاوة بسعادة غامرة ولم يحاولان ابدا تدجينها بل ان جمال اوصاني بالمحافظة عليها ما حييت ولكنه غاب طويلا وبعيدا ولم اتابع اخباره إلا في المرض والوفاة كأي تلميذ عاق , رحل جمال ورحل يعقوب ورحلت معهما تجربة ورحل معهما جيل ترك الكثير من الشواهد الأخلاقية وواجهناه بقلة الوفاء .