حديث المؤامرة

كلما وقعت حادثة أو أحداث سياسية أو كارثية في بلد عربي أو مسلم، كما يحدث الآن من إرهاب وسيل من دماء في العراق وسورية وليبيا واليمن ومصر... سارعنا إلى نسبتها إلى مؤامرة خارجية؛ عادة إلى مؤامرة إسرائيلية أو أميركية أو إلى كلتيهما.
نعم، توجد مؤامرة ما وجدت إسرائيل، وبقيت في كثير الأحداث. كما توجد مؤامرات أميركية أو أوروبية أيضاً وراء كثير من الأحداث. فإسرائيل تعمل لتحويل كل وضع عربي إيجابي أو وحدوي يهددها إلى سلبي. كما تعمل على تعميق الوضع العربي السلبي، لأن أي وضع عربي إيجابي يجعلها في حالة قلق وجودي عميق، ما بقي العقل العربي أو الضمير الغربي يرفض ولا يعترف بوجودها أو بحقها في الوجود.
لكن ليس كل حدث عربي أو حادثة أو كارثة نتيجة مؤامرة. فمثلاً، لا يمكن نسبة ما يقوم به تنظيم "داعش" وأمثاله من الجماعات الإسلامية التكفيرية الإرهابية إلى مؤامرة إسرائيلية أو أميركية أو إلى كلتيهما، لأنهما لا تستطيعان مهما بلغا من قوة الاقناع وغسيل للدماغ، تجنيد انتحاريين يفجرون أنفسهم بأعدائهما العرب والمسلمين وغيرهم. وهما لا تستطيعان استلاب عقول مؤسسي الجماعة إلى هذا الحد. تستطيعان اختراق الجماعة أو المنظمة فيما بعد، ولكنهما لا تستطيعان تجنيد أعضائها لتفجير أنفسهم لأهداف إسرائيلية أو أميركية.
لقد انتبه أسامة بن لادن إلى هذا الاحتمال؛ فعندما كان يشك في أحد الاتباع، كان يطلب منه أن يفجر نفسه في موقع ما، وكان يعدمه أو يسجنه إذا رفض، باعتباره جاسوساً. إن وصول المرء إلى حالة الاستعداد للتضحية بنفسه، تحتاج إلى بناء عقيدي (من العقيدة) قوي ومتماسك، يجعله يقدم حياته رخيصة في سبيل ما يؤمن به.
لقد كان البوذيون يحرقون أنفسهم احتجاجاً، وكان الطيارون اليابانيون في الحرب العالمية الثانية يفجرون أنفسهم بطائراتهم في السفن الحربية الأميركية تعبيراً عن إيمانهم بقدسية الوطن. لكن السلفيين الجهاديين اختاروا طريقاً مغايرة، وهي تفجير أنفسهم بغيرهم من الناس المصادفين، أياً كانوا؛ مسلمين وغير مسلمين، أو نساء وأطفالا، تلبية لنداء معتقداتهم الدينية التي أسرتهم أو سحرتهم، من مثل استرجاع عصر النبوة والراشدين (الذهبي) أو الخلافة، ودخول الجنة على الفور ولقاء الحوريات فيها. وعلى مثل هذا الفكر تنشأ جماعات أو منظمات الإرهاب باسم الإسلام، ولكنها فيما بعد تصبح مفتوحة للمؤامرة بالاختراق.
عندما ننسب وجود تنظيم "داعش" وأمثاله وأعماله وجرائمه البشعة إلى مؤامرة، فإننا نعجز عن رؤية الحقيقة؛ وهي نشوء هذا الفكر وتفشيه في المجتمع، والحاجة إلى استئصاله وإرساء فكر إنساني مستنير بدلاً منه في نفوس الأطفال والفتيان والفتيات والشباب، أي إصلاح التعليم والإعلام والخطاب الديني، لتبني الفكر الإنساني المستنير.
ومثله في المؤامرة، نِسبة الفيديوهات الدموية للذبح والحرق والقطع والبتر.... التي ينشرها "داعش" وأمثاله إلى المؤامرة ذاتها، وأنها ليست حقيقية؛ وإنما فبركة أو تركيب أو منتجة، هدفها الإساءة إلى التنظيم أو الإسلام. نفعل ذلك لأنها تستفز مشاعرنا ومعتقداتنا المؤيدة لداعش، ونلجأ إلى الحيلة النفسية المعروفة بالإسقاط لتبرئتها. والذين يقولون بذلك يبررون إرهاب "داعش" وأمثاله ويجدون له عذراً، لأنهم داعشيون في قرارة أنفسهم.
إذا كانت الفيديوهات الفظيعة مفبركة، فلماذا لا يقوم "داعش" بتكذيبها على الفور؛ بتقديم الشهيد معاذ الكساسبة أو الواحد والعشرين مصرياً أحياء يتكلمون ويتحركون؟