الحرب الأمريكية الأولى ضدّ بلد عربي سنة 1801

 

ليست الولايات المتحدة سوى استطالة أوروبية استعمارية متطورة. وهي ما كادت تقطع حبل السرّة الذي يربطها بوالدتها الإنكليزية، أي ما كادت تستقلّ، حتى انطلقت تدفع بالعمليات الاستعمارية إلى آفاق أعظم تعقيداً وتدميراً. لكنها حرصت شكلياً على تقديم نفسها كدولة من الدول، مع أنها ليست كذلك، لأنّ دستورها لا يتضمّن حدوداً جغرافية لها، ومثلها الكيان الإسرائيلي، وعلى أيّة حال فهي تصرّفت عملياً، طيلة تاريخها، كمركز إمبراطوري، واعتبرت نفسها طليقة اليد في عالم تراه بمجمله مجالاً حيوياً لمصالحها غير الشرعية، وفي جملته البلاد العربية التي تعرّضت لعدوانها العسكري منذ العام 1801.
لقد ظهرت السفن التجارية والحربية الأمريكية في منطقتنا العربية لأول مرة أواخر القرن الثامن عشر. وحدث ذلك في سياق مزاحمتها للسفن البريطانية على احتكار تجارة الأفيون في الصين. لقد كان الأفيون الذي ينقله الإنكليز من بعض مرافئ المتوسط إلى الصين، ويجنون من ورائه ثروات خرافية، هو الذي أثار اهتمام الأمريكيين وجاء بهم إلى البلاد العربية، وكان الأثرياء الأمريكيون قد استكملوا في ذلك التاريخ بناء 'دولة' تتفق مع طرائقهم في جمع ثرواتهم غير الشرعية، في الداخل والخارج، وقد انطلقوا إلى المتوسط يشترون الأفيون من بعض مرافئه وينقلونه عبر المحيط الأطلسي، فرأس الرجاء الصالح، فالمحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي، الى كانتون وإلى مرافئ الصين الأخرى. لقد كانوا يسمّمون ملايين الصينيين كي يحققوا ما يفوق 500' من العائدات، وبالطبع، فإنّ السلطات الصينية حاولت التصدي لأساطيل الأفيون الإنكليزية والأمريكية، فكان الاحتجاج شديد اللهجة الذي أطلقه الرئيس الأمريكي ضدّ حكومة الصين التي تعيق التجارة الدولية الحرّة، ثم كانت حرب الأفيون الشهيرة التي شنّها التحالف الغربي ضدّ الصين، وأرغمها على فتح مرافــــئها وأسواقها لمادة الأفيون.
لقد دفعت الموانئ العربية المغاربية، وأولها موانئ ليبيا، أثماناً باهظة لإرغامها على تقديمالخدمات للسفن الأوروبية والأمريكية، مع أنها كانت تستقبل تلك السفن، وتقدم لها الخدمات المعتادة، وتتقاضى الرسوم المتعارف عليها دولياً. ولكن، بما أنّ البلاد العربية كانت قد أصبحت محاصرة عموماً بالأساطيل الأوروبية، وبما أنّ ثغورها وقعت في قبضة المستعمرين (مضائق هرمز وباب المندب وجبل طارق) فقد صار ممكناً ابتزاز حكوماتها.
وبالفعل عقدت الحكومة الأمريكية معاهدة مع حاكم مراكش عام 1786 تعهّد بموجبها بإعفاء التجار الأمريكيين من دفع رسوم الترانزيت، لقاء عشرة آلاف دولار مقطوعة يتقاضاها سنوياً، وفي عام 1796 وقّعت معاهدة مماثلة مع حاكم طرابلس الغرب، وفي عام 1797 مع حاكم تونس، لكنّ تجار السموم الأمريكيين أرادوا التملًص من دفع تلك الرسوم على محدوديتها، واستعانوا لتحقيق ذلك بدولتهم وبأسطولها الحربي.
لقد شكل تجار الأفيون الأمريكيون كتلة قوية متراصة عرفت باسم 'شركاء بوسطن'، فكانوا يؤثرون في انتخاب وتعيين الشيوخ والوزراء الأمريكيين، بل إن أحدهم، المدعو كراونينشيلد، صار وزيراً للأسطول البحري تحديداً، وكانت تلك الزمرة تدفع الرشاوى بانتظام للشيوخ والوزراء والرؤساء الأمريكيين، وقد حدث في مطلع القرن التاسع عشر أن طالب حكام الدول العربية المغاربية بتغيير المعاهدات القديمة المجحفة، وبوقف تعسّف البحارة الأمريكيين، وبزيادة المدفوعات الى الحد الطبيعي، وإذا بالإدارة الأمريكية تسلك على الفور طريق العدوان العسكري، فترسل عمارتين حربيتين الى المنطقة متذرعة بالتصدي للقراصنة، مثلما تتذرع اليوم بالتصدي للإرهاب. ولقد كان معروفاً أنّ ذلك التحرك الحربي تم تحت ضغط زمرة تجار الأفيون، مثلما نعرف اليوم أن العمليات الحربية تتم تحت ضغط زمرة تجار النفط. في السنوات 1801 1805، شن الأمريكيون الحرب ضدّ ليبيا أولاً، فحاصر أسطولهم طرابلس، بينما انطلق الدبلوماسيان الأمريكيان، القنصل إيتون في تونس والقنصل كارتكارت في طرابلس، يعدّان بنشاط محموم انقلاباً ضدّ حكومة ليبيا مترافقاً مع تدخّل عسكري بحري، ذلك بمعرفة وإشراف الرئيس جيفرسون، وبتعليمات من وزير الحربية بيكيرينغ صنيعة تجار الأفيون زمرة بوسطن. لقد اتصل الدبلوماسيان الأمريكيان بأفراد من المعارضة الليبية الموجودين في مصر، ووقّعا معهم اتفاقية تعهدت واشنطن بموجبها تقديم الدعم العسكري والمالي لإيصال المعارضين الى الحكم في طرابلس، وتعهدت المعارضة بتوفير وضع متميّز للتجار الأمريكيين في ليبيا، وبإبعاد التجار الأوروبيين المزاحمين، كذلك اتفق على تعيين القنصل الأمريكي في تونس قائداً أعلى للقوات المسلحة الليبية تحت حكم المعارضة بعد انتصارها .

 

في رسالة إلى وزير البحرية الأمريكية، تاريخها 13/2/1805 ، قال القنصل إيتون انه يعتزم الاستيلاء على المناطق الشرقية من ليبيا، ثم قيادة جيش المعارضة، المكوّن من شتى صنوف المغامرين والمرتزقة، ومهاجمة طرابلس، على أن تتكفل مدفعية الأسطول الأمريكي بدعم الهجوم. وقد بدأ تنفيذ الخطة بالفعل، فتقدم جيش المعارضة بقيادة إيتون يواكبه مشاة البحرية وتدعمه نيران مدفعية الأسطول، فاستولى على إحدى المدن، ورفع على سارية قلعتها العلم الأمريكي. وهنا بادر حاكم طرابلس ووقّع مع القنصل معاهدة لبّت جميع مطالب تجار الأفيون، وتوقفت بذلك مؤقتاً أول حرب أمريكية ضدّ البلاد العربية.
وتجدر الإشارة هنا الى أن تلك الحرب الأمريكية الأولى ضدّ بلد عربي سجّلت وخلّدت في الأبيات الأولى من نشيد مشاة البحرية، الذين ما زالوا ينشدونه حتى اليوم: 'من تلال هوتي سوما إلى سواحل طرابلس/في السماء وفي الأرض وفي البحر/خضنا معارك الوطن'! كما تجدر الإشارة إلى مسألة أخرى تتعلق بذلك الدبلوماسي الأمريكي إيتون، الذي قاد شخصياً عملاً مسلحاً ضخماً، لا يدخل في نطاق عمله كدبلوماسي، بل وجعل من نفسه قائداً أعلى للقوات المسلحة في بلد الأجنبي، فبدلاً من توبيخه، وتنديد رؤسائه بأفعاله الإجرامية، جرى تكريمه وتمجيده بصفته: 'قاهر أفريقيا'، لقد منحوه هذا اللقب فعلاً، وأهدته سلطات ولاية ماساشوسيتس قطعة من الأرض مساحتها عشرة آلاف أكر.
غير أن العمليات الحربية لم تقتصر على ليبيا، بل دفع الأمريكيون سفنهم الى ميناء طنجة، وبدأ حصار لا سابق له في زمن السلم، شمل الجزء الشمالي/الشرقي من ساحل الأطلسي والجزء الجنوبي/الغربي من ساحل المتوسط. وفي تشرين الأول/أكتوبر وجّه قائد الأسطول الأمريكي رسالة مقتضبة الى الحاكم المراكشي تضمنت سؤالاً واحداً: 'هل يرغب السلطان بالسلام أم بالحرب؟' فاضطر الحاكم الى التوقيع على معاهدة مماثلة للمعاهدة الليبية، وبعد ذلك توجّه الأمريكيون الى تونس يستفزون حاكمها، الذي اضطر إلى طرد دبلوماسي أمريكي، فكان ذلك كافياً ليبدأ قصف تونس من البحر من دون سابق إنذار، ثم أرسلوا الى الحاكم مشروع تعهّد يحتوي على كل التسهيلات التي يريدونها لسفنهم وتجّارهم، وأنذروه أن التوقيع على الوثيقة في الحال هو وحده الذي ينقذ عاصمته من الدمار الشامل، فتمّ التوقيع على تلك المعاهدة!
وبينما الأمريكيون يهمون بالتوجه الى الجزائر نشبت الحرب الثانية بينهم وبين الإنكليز (1812-1814) وجعلتهم يؤجلون الهجوم على الجزائر، لكنهم عادوا الى خطتهم عام 1815، أي فور توقيع معاهدة الصلح مع لندن، فاتجهت سفينتان حربيتان الى سواحل الجزائر (بحجة مطاردة القراصنة كالعادة) رافعة أعلاماً بريطانية لتضليل الجزائريين، فنجحت الخدعة، ودمروا الأسطول الجزائري، ثم راحت المدافع الأمريكية تقصف مدينة الجزائر قصفاً ماحقاً، بينما أرسلوا إلى حاكمها إنذاراً بتوقيع معاهدة من الطراز إياه. لكن الجزائر صمدت حتى عام 1816، واستدعيت سفن إضافية مسلحة بمدافع بعيدة المدى، فطلب حاكم الجزائر وثيقة أمريكية تفيد بأنه اضطر لقبول الاتفاقية تحت قصف المدافع، فأعطاه المبعوث الأمريكي شيلر ما أراد، وأبرمت الاتفاقية الرابعة في 23/11/1816!
لقد كانت نجاحات تجار الأفيون زمرة بوسطن في استخدام السفن الحربية ضدّ البلاد العربية المغاربية، هي السبب الرئيس الذي جعل واشنطن تتخذ قرارها، عام 1820، بتشكيل أسطول حربي دائم الحضور في البحر المتوسط، فأرغمت إسبانيا على تخصيص مرفأ ماون في جزر الباليار كقاعدة أمريكية دائمة، وكانت نواة الأسطول السادس الأمريكي المعاصر.

'
مقتبس من الكاتب رشيد 

 

الكاتبة وفاء عبد الكريم الزاغة
---