القمة العربية: أطباق.. وأذواق

قبل سبعين عاما، عندما كانت الآمال بالوحدة حية ومساعي التحرر والثورات العربية في أوجها، تأسست جامعة الدول العربية لتعبر عن إرادة الدول المستقلة في العمل العربي المشترك؛ إيمانا من هذه الدول بأهمية التنسيق والتعاون من أجل النهوض بالأمة وحماية كياناتها، والذود عن قضاياها، ولتكون قوة إقليمية لها من القوة والتأثير والثقل ما يجعل العالم يراعي وجودها ويحسب لها ألف حساب. وقد كان ذلك قبل نشوء هيئة الأمم المتحدة بقليل، وبعد اكتشاف النفط في بعض دول الجامعة العربية المستقلة، بقليل أيضا.
منذ أن انطلقت "الجامعة" التي تأسست من قبل سبع دول -ثم انضمت إليها بقية الدول العربية التي كانت ما تزال وقت التأسيس تناضل من أجل استقلالها- وهي تخضع لتجاذبات أملتها عليها طبيعة النظم السياسية العربية، وحالة الاستقطاب الناجمة عن وجود معسكر غربي وآخر شرقي، لكل منهما مصالحه التجارية والسياسية والاستراتيجية في المنطقة العربية. وبقيت الدول العربية الأعضاء في "الجامعة" تصنف حسب ميول نظامها السياسي؛ فهي إما أن تدور في فلك الولايات المتحدة الأميركية والعالم الغربي، وإما أن تتجه نحو المعسكر الاشتراكي الذي يقوده الاتحاد السوفيتي آنذاك. ففي العالم العربي كانت العلاقات التي تبدو طبيعية وحسنة على السطح، علاقات فيها من الاختلاف والتوتر الكثير.
كانت النظم الثورية تستمد شعاراتها وأفكارها وبرامجها وأسلحتها من الاتحاد السوفيتي، وتعمل ما في وسعها على تصدير الثورة لجيرانها ومحيطها. في المقابل، وجدت الأنظمة الملكية والأميرية دعما واسعا من الولايات المتحدة والدول الرأسمالية، وذلك لعدة أسباب، في مقدمتها تمكين هذه النظم عسكريا وأمنيا للوقوف في وجه المد الشيوعي الذي كان الغرب يخشى انتشاره في العالم بشكل عام، وفي الشرق الأوسط بشكل خاص.
وسط هذا الاستقطاب، أصبحت النظم الملكية حليفا لأميركا، فيما النظم الجمهورية قريبة من الاتحاد السوفيتي. وجرى تصنيف أعضاء الجامعة في الأدبيات الثورية إلى دول "رجعية" وأخرى "تقدمية".
كان ذلك خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، قبل أن يتلاشى هذا التصنيف في نهايات القرن الماضي لأسباب من أهمها الثروة والمكاسب المالية التي حققتها الدول العربية النفطية، ودخولها في علاقات تجارية مع العالم الرأسمالي. وتحول العديد من القادة الثوريين في العالم العربي إلى حكام أبديين، مع رغبة كثير منهم في توريث الحكم لأبنائهم. هذا إضافة إلى ضعف المد الثوري، وتبدي ضعف الاتحادي السوفيتي الذي تفسخ لاحقا.
بالرغم من أن القضية الفلسطينية كانت وما تزال القضية المحورية الأولى للنظام العربي وأدبيات الجامعة العربية، إلا إن إنجازاتها بقيت أقل من طموحات الإنسان العربي والمواطن الفلسطيني على حد سواء. ويعود ذلك لأسباب متعددة، ليس أقلها الانقسام الايديولوجي بين الأنظمة العربية، والتشكيك الذي بقي عاملا أساسيا ومحددا من محددات العلاقات العربية-العربية.
ويبقى السؤال المعلق الذي لم يقدم أحد إجابة عنه، متمثلا في: لماذا يعجز العالم العربي الذي يملك أكثر من ثلث مصادر الطاقة، وهذه المساحات الشاسعة من الأرض، والموقع الاستراتيجي والثقل الديمغرافي، عن إحداث التأثير المناسب لحساب قضاياه في المجتمع الدولي والمنظمات الأممية؟
الإجابة عن هذا السؤال تتمثل في أن العرب قبلوا ظاهريا بأدبيات الأخوة العربية والوحدة العربية والهم العربي المشترك، لكنهم في حقيقة الأمر معنيون بمتابعة مصالحهم الفردية والقُطرية والإقليمية، والتي قد لا تتوافق مع هذه الأدبيات. فعلاقة الدول المنتجة للطاقة بالدول المستهلكة لإنتاجها، تسمو على علاقتها بالأشقاء الذين يتطلعون الى مساعدتها؛ وعلاقة الأنظمة التي لا تملك قوة اقتصادية أو عسكرية مع دول خارج الإقليم، قد تكون أكثر أهمية لوجودها من علاقة هامشية على أسس غير مفهومة.
ما حصل في قمة شرم الشيخ الأخيرة كان تعبيرا صادقا عن الواقع العربي، وما فيه من آمال ورغبات.. ومشاكل وتناقضات. فجميع القضايا مهمة، لكن الأولويات قد تختلف قليلا. فما يراه النظامان الجزائري والعراقي مثلاً، يختلف عما يراه النظام السعودي أو القطري. وحتى داخل مجلس التعاون الخليجي، فإنه سلطنة عمان لها موقف مختلف.
لقد تفاجأ المواطن العربي، مثلما تفاجأ اليمنيون، بـ"عاصفة الحزم" التي انطلقت بسرعة غير معهودة، وقبل انعقاد القمة العربية. ومع ترحيب الكثيرين بهذه الصحوة العربية المفاجئة، إلا أن انطلاقها أثار عشرات الأسئلة حول القيم التي توجه عمل "الجامعة" ومعاييرها، وتحالفات الأعضاء، والقوة الفاعلة في صناعة قراراتها.
من ناحية، يسأل الفلسطينيون عن الحزم وموقعه في قضيتهم، ومن جانب آخر يتساءل العرب عن سورية والعراق وليبيا و"داعش". كما يتساءل الأردنيون عن الكرم الخليجي مع مصر التي انضمت الى العاصفة من دون أسئلة أو تبريرات، وعدم وجود مثل هذا الكرم مع الأردن الذي يتحمل أعباء الأزمة السورية؛ من لجوء وتهديد وغيرهما من التداعيات.
في "عاصفة الحزم" ما يبعث على الأمل. لكن قواعد هبوبها واتجاهها وقوتها، تحتاج إلى معايير يسهم كل العرب في صياغتها.
في الجامعة العربية التي نبارك لها بلوغها السبعين، شباب متجدد. فقد قدمت هذه المرة أطباقا متنوعة لتناسب أذواق أعضائها؛ فالقوة العربية لمن يريد.. و"عاصفة الحزم" لمن يرغب.. وفلسطين تمويل لعام.. والوقوف إلى جانب من يحتاج للوقوف.