دمعة على الأردن
غصة في القلب، ودمعة في العين، حزناً وأسى وفجيعة للدماء الزكية التي سالت في دوار الداخلية، سواء أكانت من المعتصمين أو رجال الأمن والدرك أو المعترضين، فكلها دماء أردنية لا نقبل أن تسيل إلا في ساحات القتال مع العدو الصهيوني الذي يتربص بنا ليل نهار. وما كان ينبغي لهذه الدماء الزكية أن تسيل بين الأخوة والأقارب والجيران، أبناء الوطن الواحد، والمصير الواحد، والعدو الواحد.
كنا نعيش حلماً جميلاً ونحن نرى المسيرات والاعتصامات تمضي دون أدنى احتكاك وخاصة من رجال الأمن الذين ضربوا المثل الرائع بتواجدهم وحرصهم وتقديمهم الماء والعصير للمتظاهرين، ولم يسجل أدنى تدخل أمني. كم شعرنا بالزهو لتميز أردننا الحبيب عن الدول العربية الأخرى التي سالت فيها الدماء، وسقط فيها عشرات الضحايا الأبرياء. كم أحسسنا بالفخر ونحن نأمل أن تتكامل مسيرة الإصلاح: الحكومات تحاول، والشعب بمسيراته يضغط لتتسارع وتيرة الإصلاح، وتؤتي أكلها المأمول الذي يسعى إليه الجميع دون استثناء. فالإصلاح مطلب الجميع وعلى رأسهم ملك البلاد ورائد مسيرتها الذي أكد على ذلك مراراً وتكراراً.
وفجأة، وقعت الواقعة، وتبخر الحلم، وغُصَّ القلب بالألم، عندما أريقت الدماء الزكية –أياً كان مصدرها- وأصبحنا نخشى على الأردن من أيدٍ تحاول العبث باستقراره وأمنه وتماسكه الاجتماعي.
من أشعل الفتيل؟ من أوحى باستخدام القوة؟ من فقد بصره وبصيرته عندما أشار بنقض العهد الضمني بعدم التعرض للمسيرات والاعتصامات؟ من يستطيع أن يتحمل وزر ما حدث مهما كانت الأسباب؟ من يجرؤ أن يبرر أن تسفك الدماء البريئة؟ من يستطيع أن يتحمل ثقل هذه الدماء الطاهرة؟ وماذا سيجيب ربه يوم يلقاه، بم استحل هذه الدماء؟
كنا نختلف، ونتهم، ونتسابب ونتشاتم، وقد يسفه بعضنا بعضاً، ونتعارك ونتضارب، ونتخاصم ونتقاطع، ولكن لم نتصور يوماً أن نسفك دماء بعضنا البعض مهما كانت الأسباب، لأن الدم حرام حرام حرام. وجريمة لا تغتفر، وبداية –لا سمح الله- لما لا يحمد عقباه.
مهما كانت الأسباب والمبررات والحجج والذرائع فهي لا تبرر سفك قطرة دم واحدة، فالمعتصمين والمخالفين لهم ورجال الدرك والأمن كلهم أخوة وأقارب، لم يرتكب أحد منهم ما يستحل به دمه، أو تستباح كرامته، أو تهدر إنسانيته.
وأنا على ثقة لا شك فيها أن لا أحد يرضيه ما حدث، وخاصة سفك الدماء، وأن كل من ساهم في ذلك، يبكي ندماً وألماً حين يخلو إلى نفسه ويجلس بين يدي ربه، لأنه لا يجد عذراً يقدمه يبيح له سفك الدماء. قد يسامح المضروب والمجروح بحقه، ولكن لن يسامح الضارب والجارح والقاتل نفسه على ما جنت يداه!
ليس من مصلحة عاقل في هذا البلد الحبيب أن تراق الدماء مجاناً، ويجب تغليب لغة العقل، وأن تتسع صدور الجميع، وأن يستوعب بعضنا بعضاً، وخاصة الحكومة التي من واجبها أن ترعى الحرمات، وتحافظ على الدماء، فلا عذر أو مبرر لها، ولا قانون يبيح لها دماء المواطنين.
قد لا أتفق مع أسلوب المسيرات والاعتصامات، ولكني أحترم الاختلاف في الرأي، والتعبير عنه بأي صورة سلمية، ومن واجب الحكومات أن تتقبل كل ذلك، وتحاول التفاهم مع الآخرين بكل السبل الممكنة، ولا يوافق عاقل أن القوة أسلوب مقبول، إلا عندما تنتفي الحجة، وتتعطل لغة التواصل، ويغيب العقل.
إننا نخاف على الأردن، لأننا نحب الأردن، ولا نقبل أن يشاك مواطن بشوكة، فكيف أن تسيل دماؤه الزكية. إننا نخشى على الأردن أن يجره البعض إلى طريق الآلام بضيق صدورهم، وخطل رأيهم، وسوء مشورتهم.
الفرصة ما زالت سانحة أن تضمد الجراح، وتطوى الصفحة السوداء، ويتدخل العقلاء، ويتصدر الحكماء، حقناً للدماء، والاتفاق على السير في طريق الإصلاح بقوة وعزيمة وإرادة قوية توشحها إرادة ملكية حازمة عبرت عنها الرسالة الملكية الأخيرة لرئيس الوزراء.
الأمل معقود بالقلوب المحبة للأردن أن تبرهن على حبها وإخلاصها لهذا البلد، وولائها للقيادة الهاشمية أن تدلل على هذا الولاء، بنزع فتيل فتنة داخلية، وتصدع الجبهة الوطنية، وأن تسارع إلى احتواء الموقف، ومد الجسور، والتقريب بين المختلفين، وكل ذلك يتطلب شفافية ووضوح من لدن جميع الأطراف، وأن تتقدم الحكومة بمبادرة غير مسبوقة تعزيزاً للثقة والمصداقية، وأن تُعطى مهلة لاختبار النوايا، وترجمة الوعود، فقد أمهل ملك البلاد الحكومة ثلاثة أشهر، فلتكن ثلاثة أشهر، فإن أحسنت وأتقنت ونفذت ما وعدت فهذا ما نريد، وإن كان غير ذلك فإنها إلى زوال بإرادة قائد البلاد الذي لن يقبل بأي تقصير أو تبرير!
أيها الأردنيون الأحبة جميعاً ... اتقوا الله في الأردن ... اتقوا الله في دماء الأردنيين وكرامتهم وأعراضهم ... اتقوا الله في أمن الأردن وأمانه ... اتقوا الله في وحدتنا الوطنية وتماسكنا الاجتماعي ... اتقوا الله في الرحم والنسب والأهل والعشيرة ... اتقوا الله في مشاعر أطفالنا ... اتقوا الله في قلوب شبابنا وعقولهم ... اتقوا الله في رابطة الدين التي تجمعكم ولا تعودوا كفاراًَ يضرب بعضكم رقاب بعض ... اتقوا الله في صلة العروبة التي تضمكم ولا تنكصوا إلى جاهلية جهلاء ... اتقوا الله في وطن جمعنا ومصير وحدنا، ولا تجعلوها مكارثية تمنح شهادة ملائكية للأخ وشهادة شيطانية لأخيه من أمه وأبيه ... اتقوا الله في قيادة تنتظر منا أن نكون جميعاً الأفضل والأجمل والأنقى والأطهر والأنبل، الأوسع صدوراً والأعظم صبراً، الأقوى رابطة، والأكثر تواداً ومحبة وتراحماً!
mosa2x@yahoo.com