قبل أن تهاجر، فكّر!

التقيته في المقهى في شارع الشانزيليزيه الباريسي. ملامحه تشي بأنه مضطرب وتعيس كقط داخل كيس يمضي به صاحبه لرميه في مكان موحش. إنه صديق قديم عملت وإياه في منبر إعلامي بيروتي وربطتنا مودة أخوية حميمة، كما هي حالي مع معظم الذين زاملتهم في منبر واحد لفترة تطول أو تقصر.
قال بلا مقدمات: ثمة كارثة أصابتني، أنا وزوجتي وهي مريضة في البيت ولذا لم ترافقني للقائك كعادتنا. الكارثة هي ان ابنتي قررت مساكنة عشيقها وهي حامل وسيكون حفيدي الأول «ابن حرام»!
تذكرت فرحة صديقي إياه يوم حصل على العروس المشتهاة، أي «الفيزا» تأشيرة السفر إلى باريس. لقد دعانا ـ الزملاء وأنا ـ للغداء يومئذ احتفالاً بهجرته وأقسم ألا يعود إلى لبنان القصف والقتل والخطف والانفجارات. وكان ذلك من زمان… رحل.. ونجح.. وجمع مالاً بعدما وجد مهنة أفضل من مهنة الكتابة الجاحدة.. وصار محسوداً.. وها هو أمامي يرتجف دامعاً ويتوقع مني تأييده في غضبه من ابنته حتى أنه تفوه بشهوة قتلها دفاعاً عن الشرف والانتحار بعدها!..

الابنة بريئة والمهاجر هو المسؤول

فوجئ حين لم أدعمه بل قلت له: ابنتك بريئة وأنت المسؤول عما يدور. وهو أمر عادي في باريس. كان عليك أن تتوقعه قبل أن تهاجر (وتحسب حسابه).. ابنتك مواطنة فرنسية، ولدت في باريس وتعلمت في مدارسها وتعيش على هدي قيمها ولا تعرف كلمة بالعربية لأنك وأمها تتكلمان بالفرنسية حتى في البيت. تعرف أنه (في أوروبا الغربية) لم يعد ثمة ما يدعى «بابن حرام» بعدما صار أكثر من ثلث الولادات خارج إطار الزواج، والدولة اعترفت «بالمساكنة» وللمرأة فيها حقوق كالرجل…
قال بأسى وكأنه لم يسمعني: حينما ساكن ابني زميلته الإنكليزية في الجامعة تضايقت ولكنني لم أعترض فهو شاب.. قلت له: لكن المرأة في فرنسا تساوي الرجل في الحقوق والواجبات وابنتك المسكينة كبرت على هدي ذلك… كان عليك أن تفكر قبل أن تهاجر: هل تستطيع التعايش مع تقاليد البلد الذي تهاجر إليه وقيمه وطقوسه أم لا.. والآن فات الأوان، وأضفت: أنت لم تفكر بقتل ابنك والانتحار حين ساكن امرأة دونما زواج شرعي واكتفيت بالامتعاض.. قيمك التقليدية كعربي رفضت ذلك لابنتك لأنها أمرأة ورضيته لابنك لأنه رجل.. لكن وطنها (فرنسا) لا يعترف بهذا (الهراء) في نظره.. وهي تجد نفسها مساوية لشقيقها، كما هي القيم في (وطنها) الذي ولدت فيه ولا تعرف غير لغته.
قال بأسى: لماذا لا يحدث ذلك إلا لي؟
قلت له: إنه يحدث (للبعض) ولا يبدو نافراً هنا، ولا معيبا اجتماعيا. لا يحدث دائماً على هذا النحو (الكوارثي) لكنه يقع بدرجات مختلفة للون الرمادي.
ها هي الوزيرة السابقة (من أصل عربي كابنتك) رشيدة داتي تنجب ابنة لا يعرف أحد والدها وتتكتم على اسمه… ولا يبالي أحد بذلك. ولكن تخيل ما سيحدث لو قامت بذلك وزيرة عربية.
حاول مقاطعتي بقوله: ولكن…
أسكته: أنت المسؤول.. كان عليك أن تفكر قبل أن تهاجر…

لا تقتل خالتك يا كريم

صديقة عربية تعارفت وإياها في الجامعة الأمريكية ببيروت أيام الدراسة تزوجت من زميلها الأمريكي ورحلت معه إلى بيته الفخم في لوس انجليس كابن لمليونير أمريكي. التقيتها منذ أيام في باريس على العشاء كانت دامعة. ابنها ويليام كريم أصر على الانتساب إلى الجيش الأمريكي وصار اليوم كولونيلاً، وتعيش تعاسة عميقة كلما ذهب ابنها في طلعة جوية للقصف في هذا البلد العربي أو ذاك تحت راية قرارات الأمم المتحدة أو المصالح الأمريكية.
إنها تخشى أن تقتل قذائفه ما تبقى لها من أسرة في الوطن.. تخاف أن تقتل قذيفة من طائرته الحربية خالته وجدته وأبناء وبنات الخالات والقريبات والجارات… قلت لها: أنت المسؤولة وابنك الذي أنجبته من (أب) أمريكي في الولايات المتحدة لم يفعل شيئا غير أنه مواطن صالح في وطن رضيت بأن يكون وطناً لأولادك الذين لا يتكلمون العربية أصلاً…
الحكايات المشابهة تطول، ولا تحدث للمهاجرين العرب جميعاً، لكن أخذها بعين الاعتبار قبل الهجرة قد يكون مفيداً.

اللغة العربية وطن أيضاً

هذا صديق لبناني راغب في العودة إلى الوطن بعدما أثرى وأشتاق. رفض ذلك أولاده. كبروا في لندن وبريطانيا بلدهم، ثم انهم لا يرغبون بالذهاب حتى في إجازة إلى بيروت فهذه المدينة تخيفهم ببساطة، فهم لا يتكلمون العربية. كان الوالد والأم يتكلمان الإنكليزية في البيت، ليتقن الأولاد الإنكليزية، أما الأولاد فيرون الأشياء بعين محايدة. يعيشون في وطن يحترم حقوق الإنسان ولا يحنون إلى لبنان كوالديهم.
قال لي صديقي الغاضب ربما كانت غلطتي أنني لم أعلم أولادي العربية.. وهذا صحيح جزئيا وقد تنبه له زوجي الرائع رحمه الله. ولن أنسى أن ابني (الباريسي) جداً يتقن العربية بفضل والده الذي كان يصطحبه حتى تحت الثلج إلى مدرسة لتعليم العربية إلى جانب (مدرسة البيت)!
وبهذه المناسبة أحب توجيه التحية إلى مدارس تعليم العربية في أوروبا لأبناء المهاجرين، وأجد ذلك مفتاحاً للانتماء الحقيقي إلى الوطن الأم، ونبعاً يسقي الجذور. بالمقابل، من الصعب على كادح عربي في الغرب اصطحاب ولده إلى مدرسة تعليم العربية يومياً، فهو وزوجته يعملان ليل نهار لتحصيل الرزق والنجاح في الغرب.

عودة المهاجر إلى صيدا

أستاذ جامعي لبناني في إحدى الجامعات الأرقى في الولايات المتحدة قرر فجأة العودة إلى صيدا والتخلي عن عمله، وهو الناجح الذي يتقاضى راتباً وتعويضات في العام تفوق ما يمكن أن يتقاضاه في لبنان طوال عشرة أعوام. حمل ابنه البكر (في العاشرة من العمر) وثلاث بنات صغيرات وعاد. قال الجميع إنه (مجنون).. ولديه ما يحلم به طالبو (الفيزات) من طرفي وجدته تصرف بكثير من الانسجام مع قيمه التي لم تبدلها الهجرة. هذا الأستاذ الجامعي رجل متصالح مع نفسه ومع تناقضاته الداخلية ويرى الأمور بمنظار بعيد النظر، ولم يثمل بفرحة النجاح في غربة قلبه وقناعاته، وهذا حقه وليس من حق أحد محاكمته سلباً أو إيجاباً… لقد خاف أن يكبر أولاده في غربة لم تقنعه فكرياً ولم يجدها أفضل من «الأسرة العربية» التقليدية.

مهجرو قوارب من لندن وباريس إلى بيروت

يحزنني أنني لم أسمع مرة بمهاجري قوارب أوروبيين يغامرون بحياتهم للهجرة إلى الأقطار العربية و (نعيم) لبنان… لكننا نقرأ الكثير عن مهاجري قوارب يهربون من هذا البلد العربي أو الأفريقي أو ذاك إلى أوروبا أياً كان الثمن وهو أحيانا الغرق!..
أحلم بيوم أرى فيه أمام باب القنصلية اللبنانية في جادة (مالاكوف) الباريسية صفاً طويلاً من الفرنسيين الذين يحلمون بتأشيرة لطلب العلم والرزق في لبنان حالمين بحمل جنسيته والإقامة فيه والأهم من كل ما تقدم طرح السؤال التالي: لماذا لا نصنع من أوطاننا أماكن صالحة للحياة فيها لا نهاجر منها بل يهاجر الناس إليها؟