عدالة.. أم قهر وتمييز؟

تتسابق عائلات عشرات الأردنيين المحكوم عليهم بالإعدام، لتخليص أبنائها من أنشوطة الشنق المعلقة فوق رقابهم؛ من خلال إبرام صك صلح عشائري متأخر، على أمل إسقاط الحق الشخصي عن المدان، وتخفيض عقوبته إلى السجن المؤبد.
يطفو هذا الجدال مجددا بعد أن فعّل الأردن عقوبة الإعدام أواخر العام الماضي، منهيا تجميدا لها دام ثماني سنوات، ما دفع عائلات المحكومين بالإعدام إلى محاولة إنقاذ رقاب أبنائها بـ"الديّة" العشائرية.
على أن هذه التسويات تحمل إجحافا بالفقراء، وتمأسس للتمييز بين الأردنيين، في مخالفة للنص الدستوري: "الأردنيون أمام القانون سواء لا تمييز بينهم في الحقوق والواجبات وإن اختلفوا في العرق أو اللغة أو الدين". لماذا؟
لأن إمكانية إجراء هذه المصالحات ستنقذ المقتدرين من القصاص، بينما يساق الأقل حظّا والمهمشون إلى حبل المشنقة، فقط بسبب عجزهم عن تدبير المال.
هل فكرنا بمشاعر عائلات باتت تدرك أن أحد أفرادها -أخ أو أب أو جد- سينال حتفه بسبب الفقر وضيق ذات اليد؟ بالتأكيد هو شعور يمتزج بالقهر والغضب ضد مؤسسات الدولة. وكيف تشعر العائلات التي فقدت فلذات أكبادها في الوجبة الأولى، من دون تنبيه مسبق؟ ستترك المصالحات المنشودة طعما مرا في حلق أهالي 13 أردنيا أعدموا منذ استئناف تنفيذ عقوبة الإعدام. كما قد تفتح الباب أمام مزيد من تشكيك الغرب ومنظمات حقوق الإنسان في صدقية الخطاب الرسمي، الذي يبرر إحياء عقوبة الإعدام من باب إعادة هيبة الدولة ووضع حد لجرائم القتل والاغتصاب المقززة، التي يرى مسؤولون أنها تنامت بعد وقف تنفيذ عقوبة الإعدام.
صحيح أن غالبية الأردنيين -بحسب استطلاعات الرأي- مع إعادة تفعيل غرف الإعدام. لكن أين المساواة في تطبيق هذا العقاب من دون انحياز؟ ولماذا تسارعت وتيرة التسويات خلال الأشهر الثلاثة الماضية؛ هل لأن أهالي المدانين أدركوا أن القصاص قادم لا محالة بعد أن استفاق المجتمع على خبر إعدام 11 أردنيا من 122 مدانا بهذه العقوبة، أم لأنهم اقتنعوا بأنه لن يكون هناك عفو عام قد يبعد الأنشوطة عن أبنائهم وبناتهم؟
التسويات التي تمت خلال الأسابيع الماضية، بالاستناد إلى قانون العقوبات، خفضت إلى النصف أعداد المحكومين الصادرة بحقهم أحكام قطعية. وقد دفعت عائلات بين 50 ألف دينار و200 ألف دينار جمعوها من مدخراتهم، أو من خلال بيع ممتلكاتهم أو الاقتراض من البنوك، ولسان حالهم يقول: إنقاذ الرقبة حتى لو قضّى أبناؤنا ما تبقّى من حياتهم خلف القضبان، ومن باب "رائحة وجودهم ولا العدم". كما أن بعض التسويات سمح لأهالي بعض المدانين بالعودة إلى مناطقهم التي أجلوا منها إلى مناطق أخرى بسبب جريمة القتل.
هذه بعض الجوانب الإيجابية. لكن ذلك لا يعني أن المملكة تجاوزت النقطة الحرجة مع الدول المانحة، وبخاصة الأوروبية، أو أن ذلك لن يدرج في سجل تراجع الحريات العامة والسياسية وحرية التعبير. فما انفكت غالبية هذه الدول تطالب الأردن بإلغاء عقوبة الإعدام، من باب أن ذلك يشكل انتهاكا لحقوق الإنسان، وسلبا لحقه المقدس في الحياة باسم العدالة والقانون. ويجادل المعارضون أيضا بأن الإعدام لم يكن يوما رادعا لارتكاب الجرائم، مدللين على ذلك بثبات نسب ارتكاب الجرائم المستوجبة هذه العقوبة قبل وبعد تنفيذها.
لكن، هل ستربط الدول الأوروبية مساعداتها بتعليق عقوبة الإعدام، كخطوة أولى على طريق الغائها، كما فعلت 137 دولة في العالم، سبق أن ألغت هذه العقوبة اللاإنسانية؛ سواء في تشريعاتها أو في التطبيق؛ وهي دول ليست جميعها غربية كما يزعم البعض في معرض تبريره للتمسك بعقوبة الاعدام؟ الجواب هو: لا، على الأرجح.
لكن التذرع بزيادة نسبة الجريمة في البلاد لتسويغ العودة إلى تنفيذ حكم الإعدام، يعيدنا من جديد إلى المربع الأول. فالجريمة تزداد بسبب الفقر والبطالة وضياع البوصلة، وتراجع هيبة الدولة، وغياب العدالة والكرامة والفساد.
أما المزاجية؛ بتعليق عقوبة الإعدام ثم إحياؤها من دون تهيئة الرأي العام، فهي نقطة تحسب ضد الخطاب الإصلاحي المعلن. وكان من الأفضل لو أفسحت الحكومة المجال لمناقشة عامة حول سياساتها الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والسياسية، والحريات العامة وحقوق الإنسان. فالخيارات عديدة للحد من الجرائم، بدلا من اللجوء للخيار السهل.
لكن، هل يعي الأردن الرسمي أن تفعيل عقوبة الإعدام يؤثر على علاقاته مع الغرب، وتدفق أموال المانحين؟ بالتأكيد لا!
فبعض الولايات الأميركية تطبق عقوبة الإعدام. وأولوية الدول الأوروبية هذه الأيام أمن الأردن واستقراره وليس الدفع صوب تنمية سياسية ودولة القانون والمواطنة. كما أن غالبيتها باتت تفرض قيودا على حرية التعبير والتنقل في إطار التحصن ضد خطر الأرهاب العابر للقارات.
الأردن الرسمي يشعر أنه خرج أكثر منعة وسيطرة بعد اجتيازه عواصف "الربيع العربي" بأقل التكاليف. وقرار تفعيل عقوبة الإعدام تلقى دعما شعبيا وبرلمانيا وإعلاميا، على غرار إسناد توجه الأردن الملموس نحو تشديد القبضة الأمنية وفرض سلطة القانون بالقوة، بينما يعزّز دوره في التحالف الدولي-العربي ضد إرهاب تنظيم "داعش" وأخواته. وتستمر هذه المنطقة في تسجيل أعلى معدلات إعدام نسبة إلى عدد السكان.
لكن حقوق الإنسان تبقى منظومة قيم عالمية، لا يجوز تجزئتها. والحق في الحياة ركن أساسي لحقوق الإنسان، كرّسته المواثيق الدولية؛ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والبروتوكول الاختياري الثاني الملحق به. كما أن الإعدام يشرعن فعلا عنيفا بيد أي دولة، لا يمكن الرجوع عنه، لأنه يطبق بشكل ينطوي على التمييز ضد الفقراء والأقليات. وحتى حين يحترم القضاء المعايير الدولية العادلة، فإن خطر إعدام شخص بريء هو احتمال لا يمكن استبعاده.