ما بعد التصويب القانوني


ما هو أكثر أهمية وأشد تعقيداً في موضوع إصلاح الحركة الإسلامية ما يأتي بعد خطوة التصويب القانوني، وهذا ما يجب أن يكون محلاً للحوار والسجال الساخن، ويحتاج إلى جهود فكرية واسعة، تنقل الجماعة إلى آفاق جديدة ومستويات متطورة تبتعد فيها عن كل أسباب الضعف والخلاف والحصار، وتأخذ بعين الاعتبار كل التغيرات التي طالت المشهد المحلي والإقليمي وأثرت في مجريات الأحداث بعمق بالغ.
مسيرة الجماعة المستقبلية ينبغي أن ترتكز على مجموعة أسس ثابتة يجب أن تحظى بالتوافق ويحسم فيها الخلاف والجدل:
الأساس الأول : ضرورة التوجه نحو المستقبل، وتوجيه طاقات الشباب وابداعاتهم بهذا الاتجاه، والتخلص من المراوحة في مربعات الماضي، والابتعاد عن كل ما يضيع الجهد ويبدد الطاقة فيما لا طائل فيه، سوى التقويم والمراجعة واستخلاص العبر والدروس، والوصول إلى خلاصات مختصرة يتم وضعها بين أيدي القادة الجدد وجيل الشباب الذين يملكون عزيمة التقدم إلى الأمام والمضي نحو الإنجاز.
الأساس الثاني: الحفاظ على فكرة الجماعة الجوهرية التي تتلخص بوصفها إطاراً فكريا دعوياً، ومشروعاً لإحياء الأمة، يهدف إلى حفظ هوية الأمة الحضارية وحشد الأمة بكل مكوناتها وشرائحها حول مشروعها النهضوي الكبير، الذي يبتعد عن كل ألوان التعصب الديني أو المذهبي أو الجهوي أو العرقي، ويبتعد عن المسلك الحزبي الضيق أو الطائفي المغلق، وأن يكون برنامجها العملي قائماً على بناء الجيل تربوياً وروحيّاً وفكرياً وبدنياً، وفقاً لمنظومة الإسلام القيمية، وتخريج عناصر وطنية ناجحة في كل مجالات الحياة، ويشكلون نماذج عملية كفؤة في البناء والتنمية الشاملة.
الأساس الثالث : التفريق بين المسار الدعوي الفكري من جهة والمسار السياسي؛ من حيث الممارسة والنشاط والتفرغ، بمعنى أن الجماعة ينبغي أن يكون لها مواقفها وأراؤها في مختلف القضايا السياسية والوطنية، فهذا ليس محلا للحوار والاختلاف، ولكن المقصود ممارسة العمل السياسي الفعلي الذي يجب أن يكون من خلال الأطر الحزبية المستقلة المتفرغة للشأن السياسي العملي والممارسة على أرض الواقع باستقلالية تامة، وتصبح الجماعة مرجعية فكرية دعوية، ولا تتبنى اجتهاداً سياسياً محدداً، بمعنى آخر أن تترك لأعضائها حرية ممارسة السياسة تحت لافتة الأحزاب وليس تحت لافتة الجماعة، وأعتقد أن هذه المنهجية أقرب إلى فكرة الجماعة الأساسية التي أرادها الامام المؤسس حسن البنا، وأعتقد أيضاً أن هذه المنهجية تحفظ الجماعة موّحدة بعيداً عن التجاذبات السياسية والاجتهادات العلنية.
الأساس الرابع : إبعاد الجماعة عن كل ألوان المكتسبات المادية، بمعنى أن لا تكون الجماعة وسيلة ارتزاق وتكسب، وأن تبعد أفرادها عن التنافس على المناصب المادية التي تجلب الربح المادي داخل جسم الجماعة التنظيمي، وهذا لا يعني أن لا نشجع الجماعة على إنشاء مؤسسات اجتماعية، وجمعيات خيرية وروابط ثقافية، وشركات اقتصادية، ولكنها تكون بشكل مستقل تماماً لا تتبع وصاية الجماعة ولا تخضع لإدارتها، وهذه المنهجية تحفظ الجماعة من الانقسامات والاصطفافات التي تبنى على أساس المصالح والمكتسبات، وتبقى الجماعة عبارة عن هيئة بعيدة عن المطامع والمناصب بكل أشكالها، وأفراد الجماعة يمارسون عضويتهم وأنشطتهم في المؤسسات والواجهات المختلفة والمتعددة بحسب ميولهم واختصاصاتهم بلا وصاية أو أوامر من قيادة الجماعة.
الأساس الخامس: الحرص على العمل تحت مظلة القانون، وبطريقة علنية خاضعة للمراقبة الشعبية وغير الشعبية، بعيداً عن السرية وبعيداً عن كل أشكال (الكولسة) التي فرقت الجماعة وأدت إلى انشاء تحزبات داخلية وتنظيمات سرية تعمل على الاستيلاء على مواقع المسؤولية مما أدى إلى إلحاق الضرر الفاحش بالجماعة ومسيرتها وأنشطتها، وأصبحت الجماعة أكثر انشغالاً بالخلافات الداخلية، مما بدد طاقات أعضائها وشبابها، بدلاً من الانطلاق إلى المجتمع بالدعوة والإرشاد والاصلاح ونشر قيم الوحدة والتسامح والبناء والتنمية والتحديث والتطوير.
الأساس السادس : العمل على استقطاب الكفاءات الفكرية والدعوية والشخصيات الاجتماعية الفاعلة والمؤثرة، وعدم الذهاب إلى تكثير العدد ممن لا يحمل فكراً ولا رسالة ولا دعوة، لأن الجماعة ليست بحاجة إلى جيش وليست بحاجة إلى مليشيا، وليست بحاجة إلى أعداد انتخابية فقط، فهي بحاجة إلى من يحمل فكرها، وينشر رسالتها ويستطيع أن يكون نموذجاً في الالتزام ونموذجاً في الخلق القويم، ونموذجاً في اتقان العمل في موقعه ومؤسسته، ونموذجاً في النزاهة والصلاح ومقاومة الفساد، وسوف يبقى المجتمع ينظر إليها باحترام وتقدير وسوف تبقى الجماعة تحتفظ بتأثيرها وقوة كلمتها ومصداقية مواقفها في مختلف القضايا الوطنية.