حمدان يسترد اعتباره بعد موته !


( للراغبين في الانتحار انصحهم قبل تسلق سُّلمَ برج اتصالات او درجات مئذنة للصراخ من فوقها : " اولادي ما عندهم خبز" مثلما فعل عاطل عن العمل، ان يحذوا حذو صديقي حمدان، ويـسلكوا سلوكه الشرعي المشروع لرد الاعتبار،و ارسال رسالة حضارية لاعداء الحياة و الانسان)

بسام الياسين

ورث "حمدان" الفقر عن جده السادس عشر،ولشدة هزاله اصبح هيكلاً عظمياً يرتدي بدلة وربطة عنق . يتَنقّل هنا وهناك كشبح قد خرج للتو من قبره، واندس بين المُشيعين دون ان يشعر به احدٌ.نحول بدنه ساعده على الذوبان في الجموع ،و صمته المُطبق كالذي راى بام عينه مذبحة، فقد فيها افراد عائلته على يد ابناء جلدته في موجة جنون عربية.صدمته حالت دون فتح حديث معه،وكأن مرضاً نادراً اتى على لسانه. إفراطه المفرط في نفث الدخان يشد الانتباه اليه، تراه مثل قطار تركي يعمل على الحطب ايام زمان . يمشي متثاقلاً مهدود الحيل على سكة خرّبها العرب، بتقطيع اوصالها، وبيع حديدها بالكيلو في سوق الخردة.

اسوأ عادات "حمدان" على الاطلاق انه بعد إشعاله سيجارة من اخرى، إطلاقه وصلة سعال حادة، يتطاير اثناءها البلغم من فمه في الاتجاهات الست،لا يسلم من رذاذه احد من جلسائة.اذ ان بلغمه المٌتناثر له خاصية الانشطار،كقنبلة عنقودية تنشطر الى آلآف الشظايا.وما ان تنتهي نوبة سعاله حتى ينهال لعناً على الانجليز الذين نشروا عادة التدخين في مستعمراتهم،ثم يكيل شتائم بالقناطير المقنطرة على اليهود الذين ابتكروا المعاملات الربوية،وعلى من والاهم وطبّع من سفلة العربان معهم. حمدان مؤمن ان اليهود اغرقوا الطبقة الفقيرة بالديون بابتداع كمبيالات وشيكات،غالباً ما تكون نهايتها المحتومة الحبس،ثم استحوذوا على الدول الضعيفة بالقروض،وسلبوها ارادتها .

مشكلة المشكلات عند "حمدان"، ما ان يسدد كمبيالة حتى يُوقّع اخرى لتغطية سابقتها،ناهيك عن الغرق في عجوزات ميزانية العائلة رغم تقشفها.من هنا تولدَت لديه عادة مستحكمة للتخلص من معاناته وتخفيف ضيق نفسه، تمظهرت بلعن نفسه باقذر ما يحفظه عن ظهر قلب من شتائم سوقية و ثقافة بذيئة،جُلها عبارات تسفلية تصب على المنطقة الوسطى المحرمة،الواقعة ما بين السرة والركبة.عبارات لم تعرفها المعاجم المنحطة،إختارها مموسقة من كلمات زعران الشوارع،و قام بتحويرها و تلحينها ثم وضعها في جُمل مُغناة تثقب"طبلة الاذن" لشدة ابتذالها ودونية معانيها.بالرغم من رفضها اجتماعيا على المستويات الاخلاقية،الدينية،الاجتماعية الا انه شديد الاعتداد بموهبته لدرجة المراهنة على انه لو عاصر الشاعر الحطيئة امير البذاءة في شعر الهجاء العربي، لقدم له الشاعر البذيء ايات الطاعه،و ألبسه تاج إلامارة صاغراً.

الكمبيالة قلبت حياة "حمدان" راسا على عقب.اصبحت قدره المحتوم. سيطرت على ايقاع سلوكه.دمغت جبينه كما تُدمغ الذبائح المعلقة عند الجزارين.صارت جزءاً لا يتجزأ من شخصيته،هويته المعروف بها بين الناس. يدور في فلكها على مدار السنة.ليس بمقدوره الخروج من مدارها.فصوله المتعاقبة كمبيالة تعقبها كمبيالة. شتاؤه يُمطر كمبيالات.ربيعه يُزهر كمبيالات تعف عنها الحيوانات.صيفه حصاد كمبيالات حتى تضيق بها بيادره،خريفه تتساقط الكمبيالات على راسه بكثافة غابة بلا حدود تخلع اوراقها.

اطلق عليه معارفه "مستر كمبيالة ". وصف لئيم يمزق احشاءه الداخلية ، يقض مضجعه،لكنه يتظاهر بالضحك وعدم الاكتراث،وكم تمنى في قرارة نفسه ان يُكنى بـ "ابو رياله"، " ابو خنانة" للتخلص من لقب يقشعر بدنه عند سماعه ". من عجائبه عندما يحاصره اصدقاؤه بمزاح ثقيل على هذه الشاكلة،يختلي بنفسه في زاوية منعزلة،ويدندن ما نقشه ابو العلاء المعري على شاهد قبره بصوت حزين :" هذا ما جناه ابي عليَّ / وما جنيت على احد"،ويضيف من عندياته باللغة المحكية : مشان نزوة عابرة / بهدلتني يابا / و اتبهدلت انت و انا / قدام خلق الله صرت مضغة حكي/ ابنك صار مسخرة / يا ريت ظليت بظهرك محتمي/ و ان كان لا بد من نومة تخت / يا ريت ظليت برحم امي علقان وما نزلت/

عاد "حمدان" بالذاكرة للوراء. استذكر ما روته له امه عن ابيه ساعة ولادته المشؤومة،وكيف رفضت "الداية" ـ القابلة غير القانونية ـ سحبه قبل ان تقبض اجرتها،ولان الوالد ليس له من مقومات الابوة الا ذكورة متقدة،و لا يملك في دنياه سوى راتبه. اضطر رغم انفه،ان يوقع لها كمبيالة لتقوم بعملها.وعن اطلالته العسيرة اضافت الوالدة : انت عنيد منذ ان كنت في بطني،فقد "تنحت" رافضاً الخروج،ووضعت قدميك في جدران رحمي، حتى وصل صراخي للاحياء المجاورة،لكن "الداية" قاتلها الله لم ترحمني هي الاخرى،فقابلت تحديك بتحدٍ مضاعف،وشدتك بلا رحمة من طرف رجلك،حتى خلعت وركك ـ اسم الله عليك....ومن يومهاـ صرت تمشي على الواحدة ونص ـ زي "فيفي عبده" ـ ." آه يمه، القرد بعين امه غزال"ـ. صلاة النبي عليك. فشرت فيفي وكل الغزلان قدام فلقة كبدي حمدان.

ـ سامحني يمه ـ هظاك اليوم، لعنتك ولعنت ابوك من وجعي. " لما طحت ـ ما شاء الله ـ زي خروف العيد المربرب، حلفت بعدها بالثلاث ان "اسكر الدكان" وتوبة اجيب بضاعة زيك : وقلت لابوك : بكفي يا زلمة،حل عني، ـ هلكتني ـ ما بدي لا اولاد ولا بنات". لكن بعد اربعين يوم جاني المرحوم . "شهادة لله كان حصان و زينة الرجال،ولما شميت ريحته، حنتث باليمين،وطلعّت كفارة. تصدق يمه، ما كان معي مصاري اطعمي ستين مسكين،مشان هيك صمت ستين يوم...يوم ينطح يوم، كانت عندي احلى من العسل لاني كنت احب ابوك.الله يسامحه، بس يا حيف عليه،تركني وراح يحارب الكفار حتى استشهد،مشان يتبرطع مع الحور العين،ابوك يا حمدان بعرفه بموت بالنسوان ".

انفجر ضاحكاً باعلى صوته و تمتم في نفسه : "بعد اليمين" امي انجبت سبعة و " قبل اليمين" مزطت اربعة ،وكيف لو ما حلفت ـ سامحها الله ـ لسبقنا اهل الصين.والدي تركنا للفقر وراح يلحق الحور العين. شعر بعد هذه الذكرى بندم كبير،لانه لم يتعلم ان يجر على الربابة مثل عمه مشهور،لكنه تصور ربابة بين يديه،وراح يجر عليها نائحاً: حصان يابا حصان / و زلمة مثل الاسد مهيوب / خلفّت و لادك بالدين / ما تخاف الله لما رميتهم لغراب البين / رمح عنتر انطعج / وعمر رمحك يابا ما انطعج/ واقف معتلي لما ترفعه / نرفع راسنا فيه / رمح يا عيني عليه / اعلى من برج اورانج و أُمنيه.

فجأة، اصيب بنوبة حزن ، كمصاب بما يُعرف في علم النفس بـ "الثنائية القطبية"،تلك الحالة التي يتنقّل صاحبها من مزاج الى آخر من دون مقدمات،فبعد ان مرَّ بنوبة ضحك جنونية،اصيب بحالة كآبة حادة،كأن غيمة سوداء هطلت على راسه،اغرقت جسده في بركة ماء باردة لها نكهة حزن دبقة.محطات مهمة في حياته مازالت تقرع اجراسها في ذاكرته، تطن في راسه كذبابة مقصوصة الجناحين،او سكين جراح تركت وراءها ندوباُ عميقة بقيت محفورة في عقله الباطن.خاصة قصة ختانه،حيث رفض المُطهر ابو احمد الشلبي اجراء عملية القص في سن مبكرة بحجة ان " ابو حمدان" لا يدفع حقوق الناس،وظل يُسّوف حتى شارف حمدان على اجتياز مرحلة المراهقة من دون ختان الى ان صار حديث المضافات،فاستدان الاب مضطراً بعض المال بكمبيالة تحمل تاريخ استلام الراتب، ونقد المُطهر ابو احمد مستحقاته سلفاً،و كان قد بلغ من العمر ارذله، حيث اخذت تظهر عليه اعراض رعاش باركنسون،فارتجفت يداه وهو يقوم بمهمته الخطرة، حتى كاد ان يطيح بمستقبل حمدان الذكوري.

محطة مفصلية اخرى،لا يحب ان يتذكرها ابداً،لكنها تفرض نفسها عليه.ففي اليوم الاول لاستلامه الوظيفة،وَقَعّ لتاجر الملابس الجاهزة كمبيالة ثمن بدلة تناسب مقامه الجديد.ما حز في نفسه حينها، استغلال التاجر الجشع فقره بمضاعفة السعر، فالتزم الصمت من باب الاضطرار، وراح يردد : مُكره اخاك لا نذل . اما المعركة الحامية التي لم تنطفيء اوارها في اعماقه،وما زالت حية تفرقع في ذاكرته مثل حبات بشار في طنجرة ضغط عالية حتى اللحظة. كلمات خطيبته آنذاك وهي تملي عليه شروطها بلغة فوقية،اهمها شراء بدلة جديدة لان البدلة التي يرتديها من موروثات القرون الوسطى،و قد بلغت من "الكلاحة" ان بائع بالة من الدرجة العاشرة يرفض مجرد ادخالها لمستودعه من قبيل الوديعة خوفا ان يراها احد من زبائنه. لذلك اقترحت الخطيبة اهداءها للمتحف الوطني،لانها بدلة فولكلورية تؤرخ لجيل انقرض ،ولم يبق من معالمه الا هذه البدلة الاثرية،وفي حال رفضها فارجوك إلقامها لاحدى ضاغطات الامانة حتى تفرمها،و لا تُبقى منها اثراً.

حياته تشبه السباحة في بحر مالح اجاج تعج به اسماك القرش .طوق نجاته سلسلة كمبيالات لولاها لغرق منذ زمن بعيد او كان نزيل سجن سواقة،حتى يقال ان سحنته تحولت الى ما يُشبه كمبيالة مستحقة الدفع آخر الشهر. الناس عادة تدمن تعاطي المخدرات،المٌسكرات،التدخين،الشاي،القهوة، اما هو فقد ادمن تعاطي الكمبيالات،ففي كل مناسبة سعيدة او تعيسة تراه جاهزاً للتوقيع،اخرها كمبيالة دفن امه وما استتبع ذلك من مناسف،قهوة، اجرة صيوان. لكنه والحق يقال،بالرغم من اوضاعه المُزرية، الا انه لم يسخط او يغضب وظلت كلمة ـ الحمد لله ـ معلقة على لسانه كمصباح نور،مفتاح فرج،،ترنيمة رضا. وهو شديد الايمان ان الانسان المؤمن، يرتقي بالصبر والشكر الى اعلى درجات الكمال الروحي.كما ان الشدائد محك الرجال .والابتلاء يختص به الله عباده المُخْلَصِين لاختبار صلابة عقيدتهم،ومتانة ايمانهم به. لذا عليه ان يجتاز الامتحان بكفاءة واقتدار ليكون اكثر قرباً من الله حتى يُحشر مع الابرار لا مع التجار.


حمدان شخصية متزنة،على درجة عالية من الوعي والثقافة. حاول المستحيل ان ياخذ دوره في مجتمعه، الا انه لم يفلح في شق طريقه، في مجتمع اللا تكافؤ،المحسوبية،قوى الشد الفوقي والتحتي،والخلفي و الامامي،واعتماد الادارة على قاعدة "البقاء للاصلع" وليس "البقاء للاصلح". ظل موظفاً عادياً يحبو كسحلفاة عجوز تسير فوق طريق طينية لزجة،مع ذلك لم يصب باليأس وكان دائم الدعاء ـ ربي لا اسائلك رد القضاء لكني اسائلك اللطف فيه ـ مستغرباً حالة زميله في المكتب الجالس على يساره حيث يبدو مثل كتلة يأس تُشع سمومها على من حوله، بينما الجالس قبالته، اقرب ما يكون الى شوال خيشٍ معبأً بالفحم، ما ان تقترب منه حتى يُلطخك بسوداويته و يحبطك بنظرته التشاؤمية.

اخيراً، انتصر حمدان على حالته الصعبة، بلعبة نفسية استحواذية خادعة،فرضت نفسها عليه لخلق حالة من التوزان الداخلي،وللهرب من واقعه القاسي، تُعرف في علم النفس الحديث بـ "الوسواس القهري".فكرة لا يستطيع صاحبها الفكاك منها،او الافلات من سجنها،ظلت تطارده كدائنيه،وتلازمه كفقره " الازلي". الفكرة الملحاح هي باختصار: لماذا لا يدفنه ذووه واقفاً بدل دفنه مبطوحاً ؟!. فالانبطاح في القبر هو تكريس للانبطاح الدنيوي.فمن غير اللائق بكرامة الانسان ان يعيش دنياه مبطوحاً فوق الارض وفي مماته مبطوحاً تحتها.لهذا اوصى ذووه بدفنه واقفاُ على غير المألوف، ليسترد كرامته التي سلبها منه اعداء الحياة ، ويرد اعتباره امام منكر ونكير ملائكة الله.
مدونة بسام الياسين