حين تختزل أم الشهيد بمكنسة كهربائية !

يغيظني كثيرا ذلك الإصرار على تكريس صورة الأم "أي أم"، باعتبارها العنصر الذي يقدم خدمات الطهي والتنظيف والرعاية المنزلية، ويغيظني أكثر ذلك المفهوم الذي يتم الترويج له بأن أفضل هدية للأم في يومها العالمي عبارة عن طنجرة أو مكنسة كهربائية أو غسالة أوتوماتيك، فأي منطق هذا الذي يجعلنا نهدي الأم هدية تستخدمها لإرضائنا نحن؟.. وأي منطق يجعل هدية من هذا القبيل مقبولة حين نتحدث عن "أم استثنائية"؟

بالنسبة لأمهاتنا، نحن نهديهن "طناجر" ليطبخن لنا، او مكانس لينظفن البيت الذي نعيش فيه، او غسالات لملابسنا المتسخة، وبذلك نكون حرفيا نهديها ما من شأنه إضافة المزيد من الاعمال المنزلية على عاتقها، بدلا من ان تكون الهدية لها، ولشخصها، بعيدا عن حاجاتنا التي ترهقها كل يوم، أو ان تكون الهدية رمزية تجلب السعادة لقلبها، وتؤكد لها على احترامنا لكينونتها الخاصة ووجودها بيننا كأم وليس كعاملة في المنزل.

يحاولون التذاكي بالقول اننا عندما نهدي أمهاتنا أدوات منزلية حديثة فإننا نريحهن من عناء استخدام الأدوات القديمة، ربما يكون ذلك صحيحا، ولكنه يكرس صورة نمطية تؤكد ان مكان المرأة وخاصة الأم هو في المنزل فقط، وربما في المطبخ حصرا، وكأن هذه الأم لا تملك في حياتها إلا الرغبة في الطبخ والكنس والتنظيف، وكل ما ترغب فيه هو أدوات أكثر تطورا وأكثر راحة.

ما أرفضه سابقا لأي أم.. لم أتخيل أن يطال تكريم أم "مختلفة واستثنائية"، ومحور الحدث في الآونة الأخيرة كوالدة شهيد الأردن الطيار معاذ الكساسبة.. التي قام التلفزيون الأردني بتكريمها في مبادرة تستحق التقدير، وقام معدو البرنامج بمفاجأتها بحضور عدد من رفاق الشهيد في الاستوديو، وهو ما كان له بالغ الأثر الإيجابي على السيدة التي تختزن في أعماقها حزنا وفخرا كبيرين، وقد كان ذلك واضحا من خلال الكلمات التي خرجت من شفتيها لنجد أننا أمام سيدة عظيمة، وعظمتها لم تتضح فقط في طريقتها البليغة في الكلام بل في معنى هذا الكلام الذي يلخص معاني الوطنية والكرامة في يوم الكرامة.

كل ذلك بصراحة، لم يشفع للتلفزيون العزيز من سقطة في ذات سياقات أخطائنا؛ حيث قدمت المذيعة هدية لوالدة الشهيد، عبارة عن "مكنسة كهربائية".. نعم تم إهداء والدة الشهيد ذات الجبين العالي مكنسة كهربائية، فأي هدية تلك؟ ألم يكن الأجدى ان نقدم لها هدية رمزية كصورة للشهيد تحمل تواقيع رفاقه البواسل في سلاح الجو، او ان نوشح كتفها بعلم الوطن، بل ان التكريم الذي تم، وحضور رفاق السلاح كان كافيا وعظيما ولم يكن هناك داع لتلك المكنسة او المبلغ المالي، وقد رأينا جميعا كيف كانت ردة فعل والدة ووالد معاذ عندما رفضا الهدية بكل ادب ولطف وتبرعا بها الى من يحتاجها.

ان تكريم امهاتنا يكون أولا بكسر الصورة النمطية التي تسيطر على عقولنا، تلك الصورة التي لا ترى الأم الا من منظور القيام بالاعمال المنزلية، ولا ترى الأم التي تنتج وتربي وتبدع وترسم وتكتب، لا ترى الأم التي تبني المجتمع وتنشئ الابطال كمعاذ رحمه الله وغيره من الابطال في مختلف مواقعهم، صورة نمطية بالية تعكس نظرة محدودة وسطحية لا ترى في عيد هذه الأم إلا الطناجر والمكانس والغسالات.