.. الوطن!

فَزِعَ المتنبي «بآماله الى الكذب» حين جاءه خبر وفاة اخت سيف الدولة, وكان وقتها في بغداد بعد خلاصه من الاخشيديين.

امس، وقد طال الليل، كنت استمع الى اذاعتين جارين: دمشق وهيئة الاذاعة البريطانية.
من دمشق انصبّت هواتف الناس العاديين على مذيع ذكي شرب «مقلب» الوزير الاميركي كيري, وتصور ان كل شيء سيعود الى ما كان عليه من عهد القائد الى الابد الى عهد الابن الى الابد.. أليست كل الاوراق في يد اميركا ويرحم «بيّ السادات»؟
مستمعو البرنامج الدمشقي عادوا الى شهوة الحياة: نريد ان نعود الى الحرية.. الى الوطن حين كنا نشتري خمسمائة لتر سولار تؤمّن دفء الشتاء، نريد ان نعود الى الايام التي كنا نسافر فيها من اقصى الجنوب ونشتري «سندويشة» شاورما بخمسين ليرة.
ومثلما يوقظ تصريح كيري كل اشواق الشوام الى ايام العز، فان اذاعة الـ»BBC» تفتح عوالم لكل العرب المحبطين، القائمين الى الهرب من اوطانهم. فتسأل المستمعين: ما رأيكم بالسفر الى المريخ بتذكرة ذهاب فقط؟ هل تفعلها؟ ويجيب مستمع من السودان:
- من الطبيعي ان نغامر فان «مصادر الحياة الطبيعية تقل اكثر فاكثر: قلة المياه (هو على نهر النيل) وقلة الغذاء (السودان يمكن ان يطعم العرب كلهم) كلها حوافز لهذه «الهجرة العلمية» ويسألة المذيع: هل تعرف ان الانسان يموت بمجرد وقوفه على ارض هذا الكوكب لانعدام الاكسجين، والرقة المتناهية للغلاف الجوي؟!
- اعرف ولكن العلم سيوفر الاكسجين.
- والرحلة التي تستغرق سبعة اشهر؟
- يمكن اختصارها بالعلم.. بتسريع الصواريخ الحاملة لجسم المركبة.
ويقول المذيع: لكن ثبت ان التسارع يمكن ان يؤدي الى الموت. ولذلك فإن رواد الفضاء يؤخذون من قيادي الطائرات الحديثة المقاتلة.
المهم ان الاخ السوداني الشديد الايمان بالعلم الذي يأتيه طبعا من اميركا، والشديد الاشواق الى كوكب المريخ انما يعّبر، بطريقة غير مباشرة، عن ضيقه بالحياة في وطنه. ورغبته الملحة الى مغادرته.. بلا عودة.
ومثل هذا الذي تسمعه من دمشق او الخرطوم يمكن ان تسمعه من لبنان على كثرة عشاق الشعر بوطن النجوم، والسفيرة الى النجوم، واللبناني الذي سيلبنن الكون. فصناعة الحكي لا تغطي الهجرة اللبنانية التي طالت كل دول العالم، وحصل عدد مهاجريها ثلاثة اضعاف سكانها.. كما كان الحال ايام القرن التاسع عشر في.. ايرلندا ؟
الآن.. الآن ندرك ان الوطن ليس قصيدة شعر, وليس ملء خزان التدفئة بالسولار، ولا سندويشة الشاورما، لا الحلم بالذهاب الى المريخ او البقاء في العاصمة المثلثة. وإنما هو المكان المقدس الذي يبنيه ابناؤه بسواعدهم وعقولهم. ويجعلون من بواديه وصحاريه جنات خضراء، ومن شبابه مئات الآف المهندسين والاطباء ويزرعونه مدنا نظيفة جميلة، ومصانع ومزارع شهية.
.. هذا هو الوطن!