الوعي الواقعي ينتصر على الواقع الافتراضي في الاعلام

رهان كامل تخوضه اطراف رسمية وشعبية على انتهاء ظاهرة الصحافة الورقية لصالح الاعلام الجديد الذي بات فيه المواطن صحفيا كامل المواصفات وشاملا , فهو ينشر الخبر بالصوت والصورة واحيانا يضع خلفية وتحليلا للخبر على صفحته الخاصة وهناك مواطنون عاديون يملكون على صفحاتهم من المتابعين ما يفوق اعداد طباعة صحيفة كاملة وعريقة .
وحققت وسائل التواصل الحديثة انتشارا واسعا في الاردن فآخر احصائية تشير الى اشتراك اكثر من 40% من السكان بالانترنت وهناك ما يقرب المليون اردني يمتكلون حسابات على الفيس بوك وقرابة 150 الف يمتلكون حسابات على تويتر ومثلهم موزعين على باقي ادوات التواصل الاجتماعي , مما اضاف قيمة لهذه الادوات وجعلها تحتل مكانة مرموقة في ذهن الرسميين والشعبيين على حد سواء .
وتراجعت متابعة الصحافة الورقية امام هذا الهجوم الكاسح من عالم الافتراض مدعوما بوسائل الاعلام الالكترونية التي تقدم خدمة الخبر بأسبقية زمنية عن الصحافة الورقية وليس خدمة السبق الصحفي بحكم ظروف التوقيت والطباعة , فتفاعلت جملة عوامل ضد الصحافة الورقية التي لا تجد السند اللازم لوجودها من اطراف رسمية ابهرتها الحداثة الضوئية والعالم الافتراضي كما ابهرتنا جميعا افلام الخيال العلمي وحرب النجوم الافتراضية .
وميض الضوء القادم من شاشات الحواسيب المحمولة والثابت مثل وميض البرق يزول بسرعة رغم جماليته وسطوته وهدير سقوط الصحافة الورقية يشابه صوت الرعد ايضا فقد سمعه الجميع , لكن كثيرين اغفلوا مسألتين , الاولى ان طعم الحبر يبقى في حين ان طعم الافتراض مثل اسمه لا يحمل أي ذاكرة وربما ازل واتحدى ان يتذكر قارئ واحد خبرا في صفحة على العالم الافتراضي او على الوسائل الالكترونية لأن الذاكرة محروسة بالحبر والقلم والورق مِصداقا لقوله تعالى " نون والقلم وما يسطرون " .
المسألة الثانية ان ذاكرة الدولة بكل اركانها الاجتماعية والاقتصادية لن يستطيع احد تخزينها على هواء او رذاذ الفضاء كما لن يستطيع الرذاذ صون الذاكرة وتحقيق الصدقية المطلوبة لخطاب الدولة ورسائلها , فالدولة تريد ان تمكث رسائلها في الاذهان والعقول لا ان ينتهي مفعول الرسالة كما مفعول اغنية الايقاع السريع الذي ينتشر فجأة ويختفي فجأة ايضا , كل هذا على افتراض ان متابعي العالم الافتراضي معنيون بالسياسة والاقتصاد , فيما تشير الدراسات ان معظم المتواصلين مشغولون بقضايا ذاتية صِرفة والاخبار الخفيفة والغريبة .
وكل من يتابع مواقع التواصل يستطيع ان يرصد تعداد الاعجابات والتعليقات على خبر من العيار الثقيل او نقاش موضوع هادف امام سيل التعليقات والاعجابات لصبية شقراء او حسناء او لخبر حفلة شواء ورحلة في الهواء الطلق , ليعرف ان الاهتمام داخل الفضاء لا يحمل أي معقولية فنصيبه جاء من اسمه " عالم افتراضي " في حين ان الرسائل الجادة والمواضيع التي تنفع الناس تبقى في ارض الواقع والصحيفة الورقية واقع ملموس ومحسوس .
صحيح ان الصحافة الورقية عاندت مبدأ التطوير وغافلت الفضاء الالكتروني بإنتاج نسختها الورقية على العالم الافتراضي بدل تطوير ادواتها في تكثيف التحليل والتحقيق وزوايا الرأي وانتاج نسخة صحافية الكترونية موازية للورقية وليست نسخة عنها , لكن ذلك ما زال مقدورا وقادرة عليه , بحكم الحاجة الموضوعية للصحافة الورقية اليومية التي ما زالت الاكثر صدقية عند جمهور القرّاء والمصدر الاكبر لعالم الافتراض الصحفي سواء للمواقع الالكترونية او للنشطاء على مواقع التواصل .
كثير من دول العالم بدأت تعود الى الاعلام الورقي والكتاب المطبوع والسبب ان الانتماء الى العالم الافتراضي قد خلق مسافة بين الانسان وعالمه الواقعي وبدأت تظهر اعراض اجتماعية مقلقة على صعيد التربية الوطنية والانتماء الوطني والانحياز الى التوحد والارهاب والتطرف وعلينا ان نستمع الى صوت الارض قبل الاستماع الى فضاء اعتاد خلق الاصوات من الرياح دون وجود الحناجر .