مذكرات مضر بدران
أخبار البلد -
استمتعت بقراءة مذكرات رئيس الوزراء الأسبق مضـر بدران على صفحات صحيفة الغـد. لـقـد عرفت الرئيس من خلال شاشة التلفزيون الأردني، بعد أن شكل وزارته الأخيرة في العام 1989، وقدم برنامج الحكومة لأقـوى مجلس نواب في عهد المملكة، وهو المجلس الحادي عشر، والذي أتى على أثـر انتخابات حـرّة ونزيهـة. فناقشه النواب، وأثقلوا عليه بالكلام القاسي، فانبرى لهم ببراعة فائقة. وقـد لفت نظري بقوة الحجـة بمعلومات دقيقة، والثقافة العالية، والذكاء الحاد، وسرعة البديهة، ما جعلني أقول لنواب أصدقاء في ذلك المجلس، إنّ الرئيس متميز، ومحام بـارع.
من حق المواطن أن يعرف ما جرى ويجري في وطنه، ومذكرات الساسة جزء مهم من الذاكرة الوطنية والتاريخ. خاصة وأنه يتعين علينا أنْ نسعى إلى الحقيقة والمعلومة الصحيحة، بعيداً عن التزوير والإفتراء، حتى لا يُـظـلم أحـدٌ، ولا يُـظـلم الوطن بسوء، ومن أجل أنْ يُـدْرك السياسي أنّ أفعاله ستكون حجـة ً له أو حجة عليه في قادم الأيام.
أطلّ علينا الرئيس مضر بدران من خلال صحيفة الغد بعد صمت طويل منذ بداية التسعينات، وهو السياسي البارع الذي لا يُـجارى، كما وهو مدرسة تستحق أنْ يحذو حذفه آخرون، وقد اسـتنّ في الحكم وإدارة الدولة سُـنّة حسنة، كانت نموذجاً حسناً لمن يود أنْ يخدم الوطن بعيداً عن النفاق. لقد تميّـز الرئيس بدران بشجاعة القرار، وحسن تـقديـر الموقف، سعى إلى الإصلاح وحارب الفساد. وفي هذا المجال يقول:" الفساد آفة الحكومات، ومتى توغّـل في الجهاز الإداري الحكومي، تكون النهاية قد اقتربت، فإذا غابت جهود مكافحة الفساد، فاعلم بأنك كمسؤول تشارك في الفساد حتى لو لم يدخل جيبك قرش واحد". وقد حكَمتْ مواقفه السياسية والإقتصادية مصلحةُ الأردن. كما وقد كان الإقتصاد الأردني شغله الشاغل، ففي أول حكومة للرئيس مضر بدران في العام 1976 ، وضع خطة عمل لإنجاز سبعة عشر مشروعاً، منها شركة البوتاس، وتوسعة الفوسفات في الشيدية، وتمديد قناة الغور الشرقية، ومياه عمان، وإنشاء الأفران الأتوماتيكية، وتوسعة المصفاة، وإنشاء صوامع الحبوب. وهذه منجزات تاريخية،لا تُـنسى، وتُحسب للرئيس. ثم أن بُعْـد نظره السياسي والإقتصادي جعلاه يتنبأ بانخفاض قيمة الدينار الأردني، وبهبة نيسان العام 1980، عندما كان عضواً بمجلس الأعيان، ما حدا به لأن يُقَـدِّم استجواباً لحكومة زيد الرفاعي، عبر رئيس مجلس الأعيان احتجاجاً على السياسات الإقتصادية للحكومة. إنّ فطنة بدران وبصيرته جعلاه يقـتنـع بأنّ اسرائيل لا تريد سلاماً مع الفلسطينيين، كما أنه لم يكن مقتنعاً بأنها ستعيد حقاً واحداً للفلسطينيين. لذا فقد كان رافضاً لمفاوضات السلام مع اسرائيل في مدريد، وهذا ما حدا به إلى الإستقالة. وإن ما جرى بعد توقيع معاهدات السلام العربية مع اسرائيل، يؤكد صحة ما ذهب اليه الرئيس بدران. لذلك فـقـد قال للحسين:" بأني كرئيس حكومة لن أشارك بأي لقاء مع الإسرائيليين، لأنه لنْ ينتـج عن أي مفاوضات مباشرة، ونحن بحالة ضعف عربي، أي اتفاق سلام، بل سيكون اتفاق استسلام". وبعد توقيع اتفاقية وادي عربه، قال بدران لعبدالسلام المجالي:" من المفروض أن يكون لهذا الإتفاق ثـمـن، وأقل ثمن، سداد المديونية الأردنية، وشطبها". لـلـه درك أيها العربي الأبي. من مذكرات الرئيس بدران يتبيَّـن لنا أنّـه كان ناصحاً أميناً لجلالة الملك حسين رحمه الله، يضع مصلحة الأردن فوق كل اعتبار. لم ينافق بل كان يناقش جلالة الملك حسين رحمه الله، بما يعتقد أنه في مصلحة الأردن. وكان الحسين يشكره على حسن مواقـفه بعد أن يتَّضـح له صحة ما أشار إليه. كان جريئاً في اتخاذ القرار الذي يراه صائباً، كما كان فطناً، يعرف كيف يُقنع الملك حسين بوجهة نظرٍ مخالفة لوجهة نظر الملك، والملك حسين خير من يستجبْ للنصيحة.
بدران وخلال سلسلة سياسي يتذكـر كشف مواقف الرجولة والنخوة لصدام حسين تجاه الأردن والعرب. فعندما أعلم وزير الداخلية الأردني سليمان عرار، صدام بسوء الوضع الإقتصادي الأردني، قال صدام " عيب علينا أن يكون الأردن بهذا الوضع واحنا نتأخر عن المساعدة". وسلم عرار شيكاً بثلاثين مليون دولاراً. وفي قمة عمان في العام1980 قال صدام موجهاً كلامه للقادة العرب: " الأردن لم يصلها أي من المساعدات العربية التي قُـررت في قمة بغداد العام 1978، وعلى القادة العرب أن يقولوا بأنهم لا يريدون الدفع للأردن، وأنا من سيدفع عنهم، فنحن قادة ويجب أن نلتزم بما نـعـد شعوبنا به". وما أنْ انتهت الجلسة حتى دفعت دول الخليج العربي (900) تسعمائة مليون دولار، وكالعادة تخلّـفت ليبيا عن دفع حصتها في المساعدات للأردن. وقد بيّـن الرئيس بدران كيف أنّ ياسر عرفات كان رجلاً مراوغاً، يهرب من الصراحة، ولا يلتزم بموقف. وقد رفعتْ فتح والمنظمات الأخرى شعار" السلطة كل السلطة للمقاومة". وصاروا يقومون بعمل الحكومة، ويفصلون في قضايا الناس، ويعتدون على الجيش العربي، ما أدى إلى أحداث أيلول في العام 1970. في عهده عندما كان مديراً للمخابرات تعاملت المخابرات الأردنية بنديّـة مع المخابرات المركزية. ولأنه كان مستقل القرار عندما كان رئيساً للوزراء فقد وضع وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر، على القائمة السوداء، ومنعه من دخول الأردن، لأنه كتب في مذكراته تمجيداً لحافظ الأسد، ونقـداً أساء فيه للملك حسين رحمه الله. لقد رفض ضغوط السفير الأمريكي في عمان، وقال للسفير بأن الحكومة لنْ تُغيِّر موقفها جراء أي ضغط أمريكي. وأن الأردن مع الحل السلمي، والحل العربي، لأزمة العراق والكويت. زار الرئيس بدران بغداد في اليوم الثاني من العدوان الأمريكي على العراق، تحت مخاطر القصف، وقد سما بعروبته عندما قال:" لقد كانت مجازفة خطيرة، لكن للعراق دين في أعناقنا، وكنت أُريد أنْ أسـد بعضه، والمجازفة لم تكن لهذا السبب فقط، بل لأن المواطن العراقي مواطن عربي مسلم، ويجب أن أقـف لجانبه".
أما الملك حسين رحمه الله ، فهو نسيج وحده، يصعب الإحاطة بأفعاله، ومواقفه القومية، كما يصعب الإحاطة بسمو أخلاقه ونخوته ورفعتـه. في هذه المذكرات نجد الملك حسين عظيماً، أو كما وصفه بدران أسطورة لا تتكرر. فقد قاد جهوداً دبلوماسية واسعة لتجنب الخيار العسكري الأمريكي ضد العراق، وحل القضية حلاً سلمياً عربياً، وكاد يصل لغايته بموافقة صدام حسين على الإنسحاب من الكويت، غير أن الولايات المتحدة أجْهضت الجهد العربي الذي كان يقوده الحسين بعقد قمة مصغرة في جدة، يحضرها الملك فهد بن عبدالعزيز، والملك المغربي الحسن الثاني وصدام حسين وحسني مبارك والملك حسين. ولم تُـعْـقد القمة المصغرة في جدة، بسبب الضغوظ الأمريكية. وهكذ أفشلت الولايات المتحدة فرص الحل السلمي العربي للأزمة العراقية الكويتية، وأصـرّتْ على إنهاء قوة العراق العسكرية. وقد أوضح السفير الأمريكي لبدران بأن القوات الأمريكية وصلت حفر الباطن السعودية، وأن مبادرات الحل السلمي للأزمة مع العراق لنْ تمـر. لذلك نبّـه الملك حسين مجلس وزرائه بأن العدوان على العراق هدفه بقاء اسرائيل هي القوة الوحيدة في المنطقة. وقال الحسين: هناك من العرب، من راهن على أنّ الحرب لن تتجاوز الساعات، وأن بعض العرب صرح بذلك، وقال، رحمه الله:" خسارة نسميهم عرباً". كان الملك حسين ينظر للعراق بأنه أمل جديد، وظاهرة عربية جديدة، كما قال بدران. لذلك كان الحسين حريصاً أن يخرج العراق من المحنة قوياً صلباً معافى. وقد كان حزن الملك حسين عميقاً يوم قصف بغداد. أما ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فكان الحسين يقول: لا أعـتقـد بأن اسرائيل جادة بتسليم الأرض، وأنها تمارس لعبة سياسية، وأن المطلوب منّا أن نمارس العمل السياسي، لإبقاء القضية الفلسطينية حيّـة. وفي المذكرات، كشف الملك حسين لمجلس وزرائه أنه عندما كان في زيارة للسعودية العام 1990، بعد أحداث معان في هبة نيسان، شرح للملك فهد بن عبدالعزيز الوضع المالي للأردن، وأبلغه بأنه لا يستطيع أن يكون ملكاً على شعب يقاسي ومديون، وبدون مساعدات، وأنه اقترح توحيد السعودية والأردن، ويصبح الملك فهد ملكاً عليها، وأنه يريد التخلي عن المُـلْـك، فقال الملك فهد:" أعـوذ باللـه". فقال الحسين :" إذاً لا يجوز معاملتنا بهذا الشكل". إنّ الروح الوحدوية للملك حسين، وحبه لأردن قوي عزيز كانا هاجسه الدائم. إنّ مواقف الحسين عظيمة كعظمة الحسين، وتكاد لا تُحـصى، وتاريخه مشرق، وهو الوحيد من القادة العرب من قال للولايات المتحدة في عدوانها على العراق لا.
في مذكرات بدران مواقف رجولة، ومواقف وطنية، لرجل فـذ، وفيها معلومات زاخـرة، وقصص وأسرار مهمة لهذا الجيل وللتاريخ، ولمن يريد أنْ يعتبـر من السياسيين. كما وأنه يكشف خبايا الأمور، ويعزز معلوماتنا عن أحداث مفصلية كانت سبباً فيما آلت إليه أمور أمتنا من الضعف والهوان. ولأن في ذاكرة الرئيس بدران الكثير من الأسرار والمواقف التي لم يكشف عنها بعـد، ولأن الأمر يتعلق بتاريخ الأردن في مرحلة حرجة من التاريخ العربي، فنأمل أن نقرأ مذكراته كاملة في كتاب.
محمـود الشــــيبي
كـاتـب