لعنة الإنترنت.. حوض السمك الزجاجي

بماذا تشعر إذا علمت أن بريدك الإلكتروني ومراسلاتك الخاصة تعرضا للاختراق، وأن جهة ما تتجسس على فضائك الرقمي، وتتابع تحركاتك عبر هاتفك المحمول أو حاسوبك الشخصي؟
كيف شعرت حين شاهدت جريمة تنظيم "داعش" بحق الطيار الأردني البطل الشهيد معاذ الكساسبة، عبر "يوتيوب"، بعد أن وفرّت الشبكة العنكبوتية للقوى الإرهابية نوافذ فورية لتجنيد شباب حول العالم، وبث أشرطتها الدعائية لإظهار قوتها بعد أن كان الإرهابيون مهمّشين في مجتمعاتهم؟ محتوى متدفق، يروّع المشاهد، أو يرشد متصفحين إلى كيفية إعداد القنابل والمتفجرات وطرق استخدامها!
كيف تشعر لو أن صورك الشخصية والعائلية باتت مستباحة ومتاحة للجميع، كما حدث مع وزيرة الاتصالات مجد شويكة، مرفقة بتعليقات جارحة تمس الكرامة الإنسانية، ويفاقمها قصد الإيذاء والتشهير من خلال إعادة تحميلها بمتواليات لا تنتهي؟
كيف تشعر لو كنت رئيس وزراء ترقص في حفل خاص بمناسبة زواج نجلك، لتتفاجأ بتعميم صورك عبر "فيسبوك" و"انستغرام"، فقط لأن أحد الحضور قرّر تحميلها بثوان من دون أدنى اكتراث لتداعياتها على صورتك كمسؤول بارز أمام الشعب، وعلى موقفك الأخلاقي داخل المجتمع؟ أو لأنه قرّر العبث ببيانات شخصية لآخرين وتبادلها عبر مواقع التواصل الاجتماعي؟
بالتأكيد، لن يكون شعوراً إيجابياً؛ تماما كما كانت الحال قبل عقدين عندما كان أهلك يتلصصون على مذكراتك الشخصية المكتوبة، أو يتتبعون خطاك بسيارتهم. أو عندما كان موظف البريد يعبث برسائلك الشخصية، وعامل "السنترال" يتنصت على أحاديثك الهاتفية من خلال "فتح الخط". فاليوم، وبفعل الثورة الرقمية، تتغير أدوات التجسس والتعقب، بعد أن باتت متاحة للجميع، حال أي كلمة تكتبها بالتغريدات الصادرة عن حاسوبك الشخصي...إلخ.
التجسس على الآخرين بات موضة العصر.
فاليوم، زادت على نحو مرعب قدرة الحكومات والشركات التجارية والأفراد على التدخل في خصوصية الآخرين، ومراقبتهم بسهولة وفاعلية، بكلفة أقل من طرق التتبع التقليدية. اليوم، أصبحنا نعيش في عصر أشبه بـ"حوض السمك الزجاجي".
إذ إن الإنترنت التي صممت لتكون مدماكا في بناء "مجتمعات معرفة" للجميع، وبابا للحرية، غدت أيضا نقمة على كل مستخدم، وأداة فاعلة للتجسس على مستخدمي الشبكة العنكبوتية؛ عددهم قرابة ملياري شخص (ثلث سكان العالم)، مع أكثر من خمسة مليارات مستخدم للهواتف النقالة الذكية. وهؤلاء المستخدمون ينشرون ملايين المدونات والتغريدات، وملفات الصوت والصورة أو "البودكاست"، فضلا عن المعلومات الشخصية العابرة للحدود القومية، في بيئة تتسم بسرعة التغير.
يبقى من الصعب تعريف مضمون حق الخصوصية بدقة، لاسيما أنه يتعلق ببيانات خاصة بمستخدم الإنترنت، وحصانة الوسائل التي يتصرف بها الآخرون بتلك البيانات؛ سواء كانت محمية أو مشتركة، وتضمن خصائص مثل: من له حق الاطلاع عليها، ووفق أي شروط يجوز كشفها، وآلية اعتراض الحكومات المشروع على مستخدمي الإنترنت، وتتبع أنشطة مواطنيها من خلال تقنيات برامج مراقبة الحزم. وثمّة سؤال آخر: كيف تصان الخصوصية من دون المساس بحرية التعبير، لاسيما أن تقدير عتبة الخصوصية يختلف بالنسبة للفرد، وأيضا من منظور الأنظمة السياسية؟
يتزامن طرح هذه الأسئلة مع انعقاد مؤتمر عالمي في باريس قبل أيام، شهد إشهار دراسة مهمة تمس حرية التعبير والخصوصية التي تبقى ضمن الحقوق الأساسية وأكثرها تأثيرا على سائر الحقوق والحريات، بما فيها التعبير، والمساءلة السياسية، والمعتقد، من دون خوف من الانتقام. وكذلك الانتفاع من الإنترنت عبر استخدام ستار يحمي الهوية، وسلسلة أخرى من الأخلاقيات الواجب احترامها على الشبكة.
المؤتمر الذي نظمته "اليونيسكو" بعنوان "وصل النقاط"، بمشاركة 350 ممثلا عن حكومات ومؤسسات مجتمع مدني وهيئات أكاديمية، إلى جانب تقنيين ورواد ومدافعين عن حرية الإنترنت، انتهى ببيان/ تقرير عكس فحوى المشاورات، وطرح خيارات بشأن خطوات مستقبلية.
وسيرفع هذا التقرير إلى المجلس التنفيذي لليونيسكو؛ الهيئة المشرفة على عمل المنظمة، خلال دورته المقبلة في نيسان (إبريل) القادم. ومن هناك، سيدرج على جدول أعمال مؤتمر الدول الأعضاء الـ195، الذي يعقد مرة كل عامين لتحديد برنامج هذه المنظمة التنموية وأولوياتها، ومن المقرر أواخر العام الحالي 2015.
وكانت الدول الأعضاء طالبت في مؤتمرها الـ37 في العام 2013، بأن تجري "اليونسكو" دراسة استشارية شاملة، تتناول قضايا متصلة بالإنترنت في مجال اختصاص المنظمة التي ينص نظامها الأساسي على "دعم حرية تدفق الأفكار بالكلمات والصور والعمل على تمكين فضاء إلكتروني حر ومتاح بسهولة للجميع في إطار دعمها لحرية التعبير الشاملة داخل وخارج الإنترنت". وتؤمن المنظمة بأن تكنولوجيا المعلومات يمكن أن تسهم في بناء مجتمعات معرفة جامعة، بحيث يتسنى للشعوب والجماعات الانتفاع بالمعلومات والبيانات، وابتكارها وتبادلها، وتحويلها إلى معرفة ملائمة وقيمة.
جلسات المؤتمر النقاشية شهدت جدالاً حول المواءمة بين حرية التعبير وتدفق الأفكار وغيرها من المتطلبات المتضاربة؛ مثل "الأمن القومي" وحقوق الملكية واحترام الخصوصية. ورأى عدد من المشاركين الرسميين أن ذلك كلّه يتطلب الآن تدابير قانونية وتنظيمية ملائمة.
اصطدمت هذه المطالب بمعارضة نشطاء في مجال حقوق الإنسان. فالخصوصية حق أساسي، والتحدي يكمن في عدم استغلال آليات حماية الخصوصية على الإنترنت للتعدي على حرية التعبير المشروعة، والدور الديمقراطي لوسائط الإعلام التقليدية والحديثة. كذلك، يكمن التحدي في إيجاد توازن على الإنترنت بسبب تفاوت الشبكات القانونية بين المجتمعات المتصلة بالإنترنت وغير المتصلة بها، فضلا عن الولايات القضائية القومية والدولية.
نتائج المؤتمر ستتيح لليونيسكو وضع خطط نحو إطلاق مبادرات لوضع الإنترنت في خدمة أكبر عدد ممكن من المستخدمين، مع اتخاذ إجراءات لضمان تطبيق الحقوق المنصوص عليها في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الخاص بحقوق الإنسان وحق الوصول إلى المعلومات، إلى جانب أخلاقيات الإبحار في الشبكة وضمان الخصوصية داخلها وخارجها، وفق النقاشات التي ضُمّن بعضها في البيان الختامي.
من بين الأفكار المقترحة في البيان، ضرورة مواءمة قوانين الإنترنت وبروتوكولاتها مع القانون الدولي لحقوق الإنسان، والترويج لسياسات خاصة بالإنترنت تعزّز الحاكمية الرشيدة والانفتاح والشفافية والتكامل والمساواة الجندرية، وإشراك الشباب وأصحاب الإعاقات والفئات المهمشة.
تضمن البيان أيضا ضرورة الحفاظ على سرية مصادر الإعلاميين، وإطلاق مبادرات لتوعية الناس بحقهم في الخصوصية عبر الإنترنت، وإطلاعهم على الوسائل التي تستخدمها الحكومات والشركات لتجميع البيانات واستخدامها وتخزينها والتشارك فيها. وكذلك تزويدهم بأدوات لحماية الخصوصية، وضمان سلامة الصحفيين وناقلي الأخبار عبر وسائط التواصل الاجتماعي. والأهم، قطع الطريق على إفلات المعتدين على هذه الحريات من العقوبة، وضرورة مواءمة المحظورات التي تفرضها حكومات على مستخدمي الإنترنت مع القوانين الدولية الضامنة للحريات وحقوق الإنسان.
لكن مهما حاولت "اليونيسكو" تطبيق هذه الاقتراحات، فإن تحركاتها ستصطدم بواقع مختلف، بخاصة منذ بدء الحرب على الإرهاب عقب تفجيرات نيويورك/ واشنطن في العام 2001، واحتدام الضربات الجوية للتحالف العربي-الدولي بقيادة واشنطن ضد تنظيم "داعش" وأخواته في سورية والعراق. فخطر الإرهاب العابر للحدود، ومساعي الانخراط فيه، قد يقضيان على ما تبقى من حرية رأي وصحافة وتدفق معلومات وحقوق إنسان، سواء تحت أنظمة ديمقراطية حال الولايات المتحدة ودول أوروبا، أو غير ديمقراطية وهي عديدة حولنا. وكل ذلك باسم الأمن القومي، واعتماد عبارات مطاطة في قوانين مكافحة الإرهاب التي تكيّف بعبارات فضفاضة ملائمة لجميع الظروف.
وفرص التطبيق ستكون أكثر صعوبة في منطقتنا، حيث تتبارى الحكومات في تقييد الحريات في عصر الردّة على الإصلاحات بعد ثورات وانتفاضات 2011. فالعديد منها تتسابق لاستيراد تكنولوجيا التجسس، وتحرّك كتائب الإعلام الإلكتروني الخاصة بها للتشهير بالمعارضين والأعداء والمناكفين. وهناك خمس دول عربية تصنّف في خانة أعداء الإنترنت، بحسب المؤشرات العالمية، بسبب رقابتها وتدخلها في نشر المحتوى.
لكن لا ضير في سعي "اليونيسكو" إلى رسم أطر تحدد الاستخدامات الفضلى على الشبكة العنكبوتية، في انتظار ظروف عالمية وإقليمية أفضل. يقيني أنّ المعركة المقبلة ستكون بين كيانات ومؤسسات الدفاع عن القانون الإنساني، منها "اليونسكو"، وبين الحكومات التي تتحالف سراً وعلناً رغم اختلافاتها السياسية، لمحاصرة "حوض السمك الزجاجي".