الرياض وأنقرة والاستراتيجية الشاملة
تطورت العلاقات السعودية التركية بوتيرة متسارعة خلال الأسابيع الاخيرة، التطور لم يأت من فراغ فـ»الرياض»عقدت العديد من الاتفاقات مع»انقرة»العام الماضي تضمنت ضخ استثمارات بقيمة 11 مليار دولار، غير ان هذه الخطوات لم تلفت انتباه المراقبين ذلك انها جاءت في مناخ اقليمي متوتر على خلفية الازمة المصرية باعتبارها المعيار الاساس في الحكم على امكانية تطور العلاقات بين»انقرة»ودول الاقليم العربية في حينها، وقد اسهمت التطورات الاخيرة في كل من سوريا والعراق وليبيا ومصر واليمن في توفير البيئة المناسبة لتسريع التعاون بين القوتيين الفاعليتين تركيا والسعودية بشكل بات لافتا للنظر.
برز تطور العلاقات بشكل واضح في اعقاب زيارة الرئيس التركي»اردوغان»الى»الرياض»حيث تم التوقيع على العديد من الاتفاقات، تضمنت توافق»الرياض»و»انقرة»على دعم المعارضة السورية، ما يعني توحيد الجهود السياسية والعسكرية لدعم المعارضة بعد ان كانت مشتته ويسودها التنافس، وبانضمام»الدوحة»الى هذا التوجه فانه بالإمكان توليد قوة دفع، سيكون لها اثر ايجابي على المعارضة السورية، سواء المسلحة او السياسية الممثلة في الائتلاف الوطني السوري، الذي طالما عانى من الارتباك نتيجة انعدام التنسيق وضعفه بين الدول الاقليمية والعربية، ذات المنطق ينطبق على القضية الفلسطينية فامتلاك»انقرة والدوحة»لعلاقات ايجابية مع»غزة»يقابلها علاقات متطورة وايجابية»للرياض»مع»رام الله»الامر الذي سينعكس ايجابا على الملف الفلسطيني.
«انقرة»بدورها كشفت عن توجهاتها بانشاء تعاون استراتيجي شامل أعلن عنه»اردوغان»في تصريحات صحفية سبقت زيارته الى»الرياض»، لتجد هذه التصريحات طريقها الى ارض الواقع فيما بعد، اذا اعلنت كل من»انقرة»و»الرياض»عن عقد صفقات لشراء اسلحة تفوق قيمتها الـ»3مليار دولار»، التحالف الجديد ان كتب له ان يرى النور، وهو كذلك، فهو يضم اكبر قوتيين اقليميتين في المنطقة السعودية وتركيا بحجم ناتج قومي اجمالي يبلغ»ترليون و550 مليار دولار»، وبانضمام»قطر»سيبلغ مجموع الناتج القومي للدول الثلاثة»ترليون و770 مليار»دولار.
رقم قريب جدا من حجم الناتج القومي الاجمالي لروسيا التي تعاني من عقوبات وازمات سياسية بالقرب من حدودها وتفتقد الى حلفاء بذات القدرات، مع العلم ان الناتج القومي الاجمالي لقطر يعادل»202 مليار»، وهو يماثل الناتج القومي الجزائري البالغ»210مليار»واقل بسبعين مليار عن الناتج القومي الاجمالي لمصر، اما السعودية فيبلغ ناتجها القومي الاجمالي 748»مليار»الاعلى في المنطقة العربية بل والاقليم، وضعف الناتج القومي الاجمالي لـ»ايران»البالغ 368»مليار»فقط، في حين ان تركيا البالغ ناتجها القومي»822 مليار دولار»فهي القوة الصناعية والزراعية في هذا التحالف والتي باتت تنافس وتلاحق اسبانيا البالغ ناتجها»1،300 مليار دولار»، والمتوقع ان تفوقه وتتخطاه قريبا بحسب المحللين الاقتصاديين.
القوى الدولية والاقليمية ستجد نفسها قريبا تتعامل مع تكتل اقتصادي ضخم قابل للتوسع ليضم الكويت وعددا من الدول العربية، والذي يزيد من اهميته القوة العسكرية التي تملكها كل من تركيا والسعودية، والتي يضاعف من اهميتها التحالفات القوية لـ»تركيا»المنضوية تحت مظله حلف الاطلسي، وتملك عمقا اوروبيا بحجم تجارة يبلغ 45 % مع القارة البيضاء، في حين ان»السعودية»تملك حضورا قويا ودورا قياديا في مجلس التعاون الخليجي، وتحتل مرتبة متقدمة في انتاج النفط بمعدل 10 مليون برميل من النفط يوميا، فضلا عن علاقات مميزة مع»اسلام اباد».
الدول الثلاث لا تعاني من الديون ولا تحتاح الى مساعدات خارجية، ولا يمثل اي منها عبئا على الاخر في هذا الجانب بل وحتى في الجانب العسكري، فـ»تركيا»دخلت عالم الدول المانحة اذ قدمت»نصف مليار دولار»لاقليم كردستان العراق، وقدمت الاسلحة والمعونات لحكومة العبادي في العراق، بل وتعد من الدول المانحة التي قدمت مؤخرا»نصف مليون دولار»منحة نفطية للفلسطينين في غزة لتوليد الكهرباء، اما»السعودية»فهي تملك ذات القدرات لكن في اطار اوسع، اذ تعد الدول رقم واحد في حجم المساعدات المقدمة لهيئة اغاثة اللاجئين الفلسطينين»الاونروا»والسلطة الفلسطينية في»رام الله»تليها الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي.
الدول الثلاث مجتمعة تملك تنوعا مميزا يسمح بايجاد تكتل اقتصادي تكاملي بين دول نفطية تحاول ان تتحول الى قوى صناعية او مراكز مالية، تعمل الان الى جانب تركيا القوة الصناعية والزراعية النامية، هذه الحسابات لا يمكن ان تغفلها القوى الاقليمية والكبرى، فالدول الثلاث قادرة على استقطاب اهتمام القوى الكبرى والاقليمية، بل واستقطاب القوى السياسية والمجتمعية في العالم العربي لتشكيل قوة مرنة وناعمة تسير جنبا الى جنب مع القوة الاقتصادية والعسكرية بحكم الخطاب الاسلامي المعتدل الى جانب التوجهات الديمقراطية والنموذج الذي تقدمه تركيا.
تأثير هذه التحولات على الساحة الاقليمية لن يتأخر وسيظهر في العراق وسوريا واليمن، اذا يتوفر قدر عال من التوافق حول سبل التعامل مع الازمات الثلاث التي ترى في اداء الادارة الامريكية المرتبك والمنخازه لـ»طهران»و»إسرائيل»عاملا سلبيا يفاقم ازمات الاقليم ويعقدها، ويهدد مصالح القوى العربية والاقليمية وعلى رأسها تركيا والسعودية، الادارة الامريكية لم تفل اهمية هذا التحول فـالزيارة الخاطفة لوزير الخارجية الامريكي الى»الرياض»تعبير واضح لعدم امكانية تجاهل الادارة الامريكية للمملكة العربية السعودية في ظل التطور الحاصل في مفاوضات الملف النووي الايراني او الهجوم العسكري على»تكريت»الذي تدعمه»طهران»، وتغض واشنطن عنه الطرف بل وتباركه الامر الذي كشفته تصريحات الجنرال»ديمبسي»امام لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس واصفا المشاركة الدور الايراني في العراق بالايجابي.
في المقابل فان «اسرائيل» ترى في هذا التطور إضعافا لمكانتها الاقليمية؛ فأمام طهران والتعاون الاستراتيجي الشامل بين تركيا والسعودية بدأت «اسرائيل» تستشعر خطر تراجع مكانتها في الاقليم لحساب الاقوى الاقليمية الاصيلة في المنطقة، خاصة وان مصر غارقة في ازمتها وتعاني من تجاذب اقليمي ودولي خطير سيجد طريقه الى ساحتها الداخلية، فحالة الارتباك المصري والتردد الامريكي باتت تنسحب تلقائيا على عدد من الدول العربية التي اصبحت تعاني من تعقد حساباتها الداخلية والاقليمية، بشكل يوهن الامن القومي العربي، أمر بات ضرورة ان يتم تداركه عربيا ومعالجته.