ذكريات معلم (2) أحسّ أنّني في رعاية الله

اخبار البلد-
 

ملاحظة: "صعقت وبهت وانا اطالع صحف يوم الخميس الماضي 5 /3/ 2015، فقد جاء فيها ان قرية "سويمة" التي تقع على سيف البحر الميت التي كانت فيها مدرسة قبل عام 1966 لا يوجد فيها اليوم عيادة طبية ولا مركز صحي ولا مخبز ولا مطعم شعبي ولا صيدلية، نحو50 سنة مرت على خدمتي هناك وحال الناس كما كان واكثر بؤسا".

******************

جاءني كتاب النقل من سويمة الى معان، فتلقفته بلهفة وامتنان، ذلك انني عشت نحو 4 سنوات من سنيّ طفولتي في معان ودرست فيها الصفين الثالث والرابع الابتدائيين وعشت في كنف أخوالي الخوالدة- آل خطاب كرام الناس، اميرا مدللا، تحفني العناية والرعاية، اجد لي في عشرات البيوت مودة وحنوا وترحابا، فقد توفي والدي وانا في الرابعة من عمري وكان أبو علي يرحمه الله ويحسن اليه، جوادا كريما يغيث الملهوف ويلبي حاجات من "ينصاه" ويطرق بابه، خاصة وانه كان ميسورا بفضل عمله في شركة نفط العراق "الآي بي سي" في الاجفور، حيث ولدت وامضيت سنوات عمري حتى سن الثامنة في منزل جدي يرحمه الله ويحسن اليه في الاجفور.

حين أخذ الله مني والدي في سن مبكرة عوّضني فتولى الله رعايتي وحراستي وحمايتي ورزقي وتوجيه خطاي، كنت احس ان الله يرعاني.

في ذاكرتي من طفولتي في الاجفور "الرويشد الآن" ذكريات غاية في العذوبة.

رجعت الى المنزل من اجل تناول وجبة الفطور، كان عدد من الرجال يقفون امام المنزل ويدعون اخي احمد الى الاقتراب، لكنه ظل يقف بعيدا وهو يرفض الاقتراب، طلبوا مني ان اطارده وان امسك به، عدوت خلفه الى ان تعب فامسكته ولما وصلوا الينا امسكوا به وبي، حاولت ان اعرف لماذا يلقون القبض علينا الى ان اوثقونا وتقدم رجل يمسك في يده موسى الحلاقة وطهّرني اولا.

غرقت في الدم والالم وعندما عاد جدي مزعل من العمل وقت الغروب عادني وهو في اعلى درجات الغضب والاستياء وسمعته يقول صارخا: كيف بتعلموا محمد يمسك اخوه ويسلمكم إياه !! كان ذاك هو الدرس الأول، الابلغ والاثمن، في قواعد الخُلق والحياة: لا تُسلِّم اخاك.

كان "الكامب"، المعسكر المُشيّك المخصص للعاملين في شركة نفط العراق في الاجفور، قطعة من بريطانيا. كانت البيوت احياء مستقيمة متقابلة بابواب خشبية وعليها أبواب ذات مناخل، تفصل بينها شوارع فسيحة مضاءة بالفوانيس، وكانت "البكبات" تزود كل المنازل، يوميا، بحاجتها من قوالب الثلج – لم تكن الثلاجات موجودة – والخضر والدواجن مجانا، وكان في "الكامب"- يسميه الناس الكمب – سينما ومدرسة، أتذكر من معلماتي فيها الست مريم والست ايديل من عجلون وكان في الكمب، السوبرماركت البريطاني الشهير"السبني" وكان فيه أطباء وتطعيم أطفال وعيادة وملاعب كرة قدم وقاعة مغطاة تضم ملاعب سكواش وكرة يد وكرة سلة وبركة سباحة مغطاة وأخرى مكشوفة ومكتبة أطفال ومكتبة كبار و"ميز" ومقهى وخير الله.

وكما عشت طفلا في بيت جدي في معان، سكنت شابا في بيت خالي ابراهيم – أبو المرحوم عادل نائب معان الفارس الجسور. تم تعييني، معلما للغة الإنجليزية والرياضة، في مدرسة فلسطين في معان. وعندما راجعت مديرية التربية هناك صادفت المساعد الإداري محمد خليل خطاب الخوالدة الذي ما ان رآني حتى قال: انت محمد بن حسن ابن "جظة" بنت مزعل وامها فضية من قوم حرارة واخوالك هم إبراهيم ومشري وعبد الحليم وخالاتك هن حليمة وهدية وسامية واخوانك هم…. واخواتك هن…. ، كان محمد ال خطاب يرحمه الله ويحسن اليه نسّابا لا يشق له غبار.

اعتقل المعلم البعثي عبد الحميد الذنيبات الذي كان معلما منفردا في مدرسة بير أبو العلق في الشوبك وظل طلاب مدرستها شهرين بلا معلم فاعربت عن رغبتي في العمل في المدرسة الى حين الافراج عن المعلم المعتقل.

عصرا، حملني عودة المعاني الذي اصبح مديرا للتربية والتعليم في معان، بالسيارة الرسمية الى "بير أبو العلق" معلما منفردا، وطلب مني ان استخدم "يطق" المعلم الذنيبات الذي هو السرير وملحقاته، اوصلني الرجل الشديد التهذيب والرفق الى المدرسة وعاد. كانت المدرسة مكونة من غرفتين، غرفة لمعيشة المعلم ونومه والغرفة الأخرى للتدريس ولم يكن للمدرسة – ومعظم مدارس القرى – "منافع" أي حمامات، كانت الحمامات و"الشورات" ترفا لا يفكر فيه احد.

كنا في شهر تشرين الثاني عام 1966، وكان برْدُ الشوبك الرهيب في أول تفتحه، وكان ثلج الشوبك الموصوف في طوره الجنيني بعد، كان في الغرفة سرير وملحقاته وصوبة ديزل وكنت حملت معي "جركني ديزل ورطل خبز وكروز سجائر كمال وكروز كبريت وعبوة سعة 2 كغم من زيت الزيتون الطفيلي وعبوة من الزيتون المكبوس الطازج وعددا من معلبات التونا ماركة الوردة ومعلبات البولبيف البرازيلي الشهير ماركة اكسترا والبيض والملح والسكر والشاي – لم اكن اعرف القهوة ولا اشربها حتى الان- ولاحظت وجود صناديق وعلبا مغلقة، وبالتاكيد حملت معي راديو "ترانزستور" وبطاريات إضافية وحقيبة مليئة بالروايات وبدواوين الشعر الجاهلي وابرزها ديوان المتنبي وديوان الهذليين، الذي فيه اجمل قصائد الرثاء الإنساني بلا منازع، التي يقول في ابرزها أبو ذؤيب الهذلي:

أَمِنَ المنون وريبها تتفجّعُ والدهرُ ليس بمعتبٍ من يجزعُ.

قالت اميمةُ ما لِجِسْمِكَ شاحبٌ منذُ ابتذلتَ ومثلُ مالكَ ينفعُ.

فاجبتُها انْ ما بجسميَ انه أَوْدى بنيَّ مِنَ البلادِ وَودَّعوا.

الى ان يقول:

واذا المنيّةُ انشَبت أظْفارَها الفَيتَ كُلَّ تَميمةٍ لا تَنفَعُ.

فتحت ثلاث علب تونا اكلتها على الواقف شربت زيتها واستخدمت المعلقة لتجميع القطع البيضاء الشهية وتناولتها من دون صحن ومن دون ليمون ومن دون خبز.

نمت بعمق لم اعهده، استيقظت نحو الساعة السابعة توجهت الى البئر القريب و"نشلت" دلو ماء غسلت طنجرتين وسطلا من الالمنيوم وضعت الماء فيها ثم وضعت ابريق الشاي على الصوبة. اكتشفت ان غرفتي مليئة بالمواد الغذائية هي عبارة عن شاي مسحوق بعبوات زجاج سعة 500 غرام لكل عبوة وكيس من السكر زنة 20 كيلوغراما و3 أكياس من الحليب المجفف سعة 10 كيلوغرامات وعدس حب وفاصولياء وبازيلاء ناشفة واكياس صغيرة من الملح وعدد من عبوات المربى سعة 5 كغم لكل عبوة ووجدت كيسي طحين.

ظننت ان المعلم الذنيبات يتاجر بالمواد الغذائية.

افطرت بيضا مسلوقا وبضع حبات من الزيتون، اشعلت سيجارة كمال وتجولت امام المدرسة في جوٍ ندي خرافي النقاء لدرجة انني لمت نفسي على تلويث البيئة بسيجارتي. نظرت الى الساعة كانت الثامنة، لم يصل الطلاب بعد، أصبحت الساعة التاسعة والعاشرة والثانية عشرة والثانية بعد الظهر ولم يأت الطلاب، ذهبت الى القرية القريبة فلم اجد فيها أحدا، كنت وحيدا في تلك البقعة الجبلية الباردة الفسيحة.

مرت أربعة أيام لم اشاهد خلالها انسيا ولم اتحدث مع احد، بلغ ضجري وتوجسي وترقبي مداه، كان معي مسدس "بيرتا" اشتريته من معان بسعر 30 دينارا بالتقسيط المريح – دينارين شهريا- بمعرفة الخال الغالي أبو عادل، تحوطا من الوحوش التي تتحرك على شكل مجموعات والتي حذرني منها محمد خليل خطاب وهاني سكر ومحمد عوض كريم ومحمد عطية اخو عميرة وعدد من الأصدقاء.

ذات عصر لمحت خيّالا يتحرك على بعد كيلومترات، لوحت له بيدي فلم الفت انتباهه فاطلقت طلقتين في الهواء توقف وتوجه نحوي فتغدينا اشهى غداء مكونا من المربى والتونا والبيض المقلي بالسمن البلدي الذي كان يحمله. قال لي ان الأهالي يغادرون القرية بطلابهم واغنامهم وخيولهم وحميرهم في بداية الشتاء الى المناطق الدافئة "المدافي" وانهم لا يعلمون بعد عن عودة المعلم الى المدرسة.

بعد يومين طويلين من الانتظار جاء فرج الله، وصل الطلاب ومعهم عجوز وبغلان يحملان متاعا وطحينا، سكن الطلاب العشرة في بيت واحد مكون من "قَطْعٍ" كبير ومعهم عجوز تخبز لهم وتطبخ لهم عدسا او جريشا او رشوفا. عرفت من الخيّال ان المواد الغذائية الموجودة في غرفتي هي تبرعات من جمعيات خيرية دولية لطلاب القرى الفقيرة وكان النظام هو ان يوزع المعلم مطلع كل شهر المواد الغذائية على الأهالي فقررت ان اغير النظام الذي لا يحصل الطلاب بموجبه على اذن الجمل. نقلت مقاعد الطلاب من الغرفة الأخرى ذات الزجاج المكسور التي تشبه "الفريزر" في شدّة برودتها الى غرفتي التي أصبحت ادرس الطلاب فيها. أصبحت اغلي الحليب المجفف في الطنجرة الكبيرة وعلى البريموس الضخم المخصصين للمدرسة على الساعة العاشرة صباح كل يوم – بما فيه يوم العطلة الجمعة- واسكب للطلاب في اكواب كبيرة، الحليب الدافيء المحلى وهم يتحلقون حول الصوبا ووجوههم غاية في الاحمرار، كان ثلاثة من الطلاب العشرة في الصف الثاني وثلاثة منهم في الصف الثالث وثلاثة منهم في الصف الرابع وطالب في الصف الخامس.

بعد قليل هطلت ثلوج الشوبك كثيفة وبلا انقطاع لمدة 3 أيام فوصل ارتفاع الثلج الى نصف ارتفاع باب الغرفة، لم يأت الطلاب، فذهبت الى مسكنهم للاطمئنان عليهم وصلته شبه متجمد فوجدت العجوز قد اشعلت حطبا في الغرفة التي يتعذر ان يرى من فيها ابعد من أصابعهم. ناولتني رغيف خبز ساخنا وقطعة من السمن البلدي الجامد والقت عليّ فروة ثقيلة كانت تنام فيها، مر وقت قبل ان اشعر بالدفء، اصر الطلاب على ان انام عندهم وهكذا كان، سهرتهم وحكيت لهم كيف هو العالم في الخارج، ورويت لهم قصصا عن تاريخ المنطقة، عن المؤابيين والانباط الذين تبعد مدينتهم البتراء عنهم مسافة 25 كيلومترا فقط، استأت عندما علمت انهم لم يزوروا البتراء فاستاجرت لهم، عندما حل الربيع، "بكبا" بدينارين ذهابا وإيابا، حملنا الى البتراء حيث امضينا يوما كاملا نتجول بين اثارها ونتعرف على تاريخها من دليل سياحي شهم يملك مطعما اصر على ان يدعونا اليه لتناول طعام الغداء المكون -حسب اصراري- من شاندويتشات الحمص والبطاطا المقلية والفلافل وزجاجات الكازوز ماركة سحويل، التي شربها الطلاب اول مرة في حياتهم.

كان الناس على فطرة لا تضاهى وعلى براءة أخّاذة وعلى تلقائية فاتنة وعلى ودّ باذخ، و… لا يزالون.