ذكريات معلم (1) حين أكلت سمكًا من البحر الميت

بدأت الحكاية التي استمرت احد عشر عاما، من البهاء والعناء، برسالة قصيرة من عمي عبد خلف الداودية يرحمه الله ويحسن اليه، وكان يومها مدير التربية والتعليم لمحافظة العاصمة، الى الأستاذ ذهني رأفت وكان يومها موظفا كبيرا في وزارة التربية والتعليم جاء فيها بالحرف الواحد: (اخي الأستاذ ذهني رافت ابعث اليكم ابن عمي هذا راجيا تعيينه وستجدني ان شاء الله من الشاكرين. اخوك عبد خلف). اجلسني الرجل، الأكثر بشاشة ودماثة من بين كل من عرفت، وتحدث عبر الهاتف ثم قال لي: اذهب الى شؤون الموظفين واستكمل إجراءات التعيين، ثم أضاف مبارك محمد. لقد أصبحت معلما، كان ذلك في شهر آب عام 1966.

لاحقا عملت بمعية ذهني رافت في صحيفة صوت الشعب وكان مديرا عاما لها وقد زرته في منزله عندما أصبحت وزيرا، وظل لهذا الرجل النقي في نفسي مقام بهي.

جاء تعييني في مدرسة سويمة الواقعة على البحر الميت، فسكنت مع المعلمين في غرفة طينية بسقف من القصيب تتدلى منه مروحة، لا هاتف ولا ثلاجة ولا تلفزيون ولا "دي في دي" ولا سيارات ولا مقاهي ولا سينما ولا لاب توب ولا فيسبوك، كان عالمي آنذاك مليئا بالكتب التي تزيد على كتب كشك الثقافة العربية لصديقي "أبو علي" وكانت "معداتي" سريرا جيشيا يحدث صريرا لا يُضبط ولا يطاق وفرشة ولحافا ومقلى وابريق شاي وبريموسا ومكوى صغيرة وحفاية وراديو كنت استمع منه الى احمد سعيد من صوت العرب والبي بي سي واستمع الى ام كلثوم من إذاعة إسرائيل على الساعة الرابعة لمدة ساعة عصر كل يوم.

هناك، في سويمة، أكلت سمكا طازجا من البحر الميت!! فقد فاض نهر الأردن "الشريعة" وحمل الى البحر الميت، من بحيرتي الحولة وطبريا وعلى امتداد الاخدود، كل ما في طريقه من كائنات حية، اسماك وافاع وضفادع، كانت تطفو على سطح البحر، فيلقيها الهواء الى الشاطئ، فنلمها محفوظة مملحة في ملح البحر جاهزة للشواء.

كان الطلاب يحملون لنا في الصباح حبات الباذنجان والبندورة والفلفل الأخضر والكوسا والزهرة والملفوف فكانت وجباتنا المجانية تتكون من تلك الخيرات التي كانت خلوا من اللحوم فلم تكن ملحمة في سويمة آنذاك.

وما ان يقرع جرس الإيذان بانتهاء دوام ظهر يوم الخميس حتى أتوجه الى الطريق الرئيسي الواصل بين الضفتين فاستقل الحافلة الى اريحا التي اتناول فيها وجبة الغداء المكونة من الكباب والحمص وزجاجة سحويل بـ 5 قروش واما أبو سمره بائع الموز والبرتقال فكان ينادي كل ما شئت حتى الشبع بقرش واحد واحمل ما تستطيع حمله من الموز والبرتقال بـ 3 قروش.

من اريحا الى القدس حيث تجد التاريخ مكثفا يمكن ان تمسكه باليدين، كنت اتجول في حواري القدس وازقتها وامر على اسوارها الى ان تكل قدماي فاجلس على المقهى اتناول الشيشة العجمي وابريق الشاي المنعنع ثم أبحث عن فندق يتناسب سعره مع طبقتي وراتبي فاجد فندقا بسعر 120 قرشا لليلة مع فطور، كانت الفنادق تعج بالسياح الذين ادخل معهم في نقاش سياسي وتاريخي طويل يسلمنا الى النوم.

واحيانا كان يأتي الشهيد ميشيل النمري ومحمود كساب الى سويمة، فنتغدى "مكمورة" وهي طبخة عزابية شهية للغاية، مكونة من الدجاج والبطاطا والبندورة والبصل والفلفل، توضع كلها دفعة واحدة في الطنجرة ويضاف اليها كوب ماء كبير وتترك نحو ساعة على البريموس- البابور من دون أي تدخل، وما ان تنضج حتى نلتهمها، مغمسين بخبز شراك القمح، حتى آخر غرام منها ثم نتوجه الى الطريق الرئيسي سيرا على الاقدام، ونستقل الحافلة الى رام الله حيث نسهر في ملاهيها الليلية نستمع الى مطربي الإذاعة الأردنية الى الفجر او نذهب الى السينما لمشاهدة أفلام عمر الشريف وفاتن حمامة وفريد شوقي ومحمود المليجي.

في اليوم التالي نتوجه الى نابلس او الى القدس او الى الخليل حيث نتغدى كنافة تصبح هي وجبة الغداء والتحلاية معا. ولا يخفى اننا نجوس مكتبات مدن الضفة الغربية التي نزورها وتحديدا مكتبات الكتب المستعملة فنبتاع ما تمكننا ميزانياتنا من ابتياعه خاصة وان الكتاب عندنا مشاع، نقرأه ثم نحيله الى من يرغب في قراءته وهكذا يتمكن الواحد منا من قراءة العديد من الكتب بالمجان تقريبا.

في العطل الأسبوعية الأخرى وكانت العطلة الأسبوعية يوم الجمعة فقط، كنت اذهب الى المفرق حيث الاهل الذين احمل اليهم الموز والبرتقال و"الغيارات" الداخلية والجرابات، التي يسميها أصدقائي من اهل المدن الكلسات، والقمصان وحيث الاصدقاء احمد مرزوق الوزان وعلي أبو فلاحة وكمال سهاونة وعبد الحميد عرقوب الدغمي ونايف ميخائيل حداد وعبد المهدي علي التميمي وفيصل عبد الرؤوف الدحلة ومحمد الملكاوي وغازي هلال النمري ونايف ومحمد العجلوني ومصطفى الحسبان وفراج عيد فراج ومحمد خالد الرواد واسعد عطا ومحمد ومحمود علي الشبيل وفرحان محمد الحسبان وخالد ويوسف هاشم الهنداوي وفكتور نشيوات ويوسف وعماد القسوس وسمير نواف الدخيل ومحمود كساب وميشيل وفخري النمري ونايف عطالله الليثي ومحمد إبراهيم حرب وعلي محمد مشري وعلي وحسين خلف الحمود.

لا اعرف كيف نفذ اهل سويمة والاغوار الأردنية عموما من سموم الافاعي في تلك الحقبة المبكرة التي كانت الافاعي تتخذ من السقوف جحورا ومساكن لها، وقد حدث ان كنت اقرأ رواية ذهب مع الريح لـ شارلوت برونتي عندما سمعت هسهسة فرفعت رأسي الى الأعلى فاذا بالافعى تتلوى بين القصيب فنبهت رفيقي في الغرفة التي سارعنا الى مغادرتها وبقينا طوال تلك الليلة في الخارج نسهر على ضوء حطب البلان الذي اشعلناه الى ان طلع علينا الفجر.

مر بنا قرويون يعملون في مزارع عبدو الانيس فاخبرناهم بما جرى فضحكوا وقالوا انه كان علينا ان نملأ الغرفة دخانا فالافاعي لا تحتمل رائحة الدخان وبعدها يمكن ان ننام ملْء جفوننا. المهم في الامر ان شابا منهم دخل الى الغرفة واغلقها خلفه، غاب نحو نصف ساعة طلع بعدها وبيده الافعى المائل لونها الى الخضرة، يمسكها بكل هدوء من راسها، والافعى مستكينة بين أصابعه، فعرضها علينا ان كنا نريدها ولما لم نوافق قطع راسها وطلب منا ان ندفنها كي لا يطأ أي شخص على عظامها فيتسمم!

زار مدرستنا مدير تربية البلقاء التي تتبعها مدرسة سويمة وسألني لماذا انت حافي القدمين يا أستاذ، وكنت انتعل صندلا احضره لي من تبوك خالي إبراهيم أبو شنب، الذي كان يعمل سائق شاحنة، فقلت له: هذا هو لبس خوالي المعانية، فتفاجأ بي وتفاجأت انه عودة المعاني مدير التربية والتعليم، فسأل ولماذا لا تعمل في معان عند أخوالك؟ فقلت له: الله وايدك.

بعد أسبوع جاءني كتاب نقل الى معان، تلقفته بلهفة وامتنان.