مش "تبويس لحى وأخذ خواطر"!
مرّة أخرى، تصطدم مؤسستا "الغذاء والدواء" و"المواصفات والمقاييس" بتجار وشركات، ونجد أنّ وزارة الصناعة والتجارة تقف على الطرف الآخر، وليس مع المؤسستين اللتين من المفترض أنّ الوزارة تمثّل المظلة الإدارية والقانونية لهما!
شحنة القمح البولندية الجديدة (المتحفَّظ عليها في العقبة)، هي عنوان القصة الراهنة. إذ استمعت لجنتا "النزاهة" و"الصحة" النيابيتان (أول من أمس) إلى شهادة مدير "الغذاء والدواء"
د. هايل عبيدات، الذي أكّد أنّ الشحنة (التي تبلغ 52.5 ألف طن) غير مطابقة للشروط والقواعد الفنية المعتمدة، لتضمّنها نسبة كبيرة من الحبوب المصبوغة. أما الشاهد الثاني، فهو مدير الصوامع في وزارة الصناعة والتجارة، حسونة محيلان، الذي أكد أنّ نسبة الصبغة لا تتجاوز الـ800 كيلوغرام، وهي ضمن الحدود المسموح بها والمعتمدة عالمياً. وهو الرأي الذي رفضته مؤسسة "المواصفات والمقاييس" التي أكد مديرها العام د. حيدر الزبن، أنّ "الفحوصات أثبتت أنّ 45 طناً من الشحنة تحتوي على الألوان والصبغات المخالفة للقاعدة الفنية"!
وبالرغم من أنّ النتائج التي أظهرتها مؤسسة "الغذاء والدواء" تتحدث عن "صلاحية الشحنة للاستهلاك البشري"، إلاّ أنّ ما هو أهم من ذلك أنّها مخالفة لـ"القواعد الفنية"، وفق نتائج مختبرات المؤسسة، وهو شرط مهم متوافر في العقد بين الوزارة والشركة التي تمّ إحالة العطاء عليها. فالشروط الفنية تتعلّق بشيء مهم آخر يتجاوز حدّ "الاستهلاك البشري" إلى نوعية القمح ومدى جودته، بخاصة أنّنا نشهد في الأعوام الأخيرة تراجعاً كبيراً في نوعية رغيف الخبز الأردني، مقارنة بما سبق، وهو الأمر الذي تحيله المخابز إلى نوعية القمح المستورد.
ثمّة علامات استفهام متعددة حول هذه الشحنة وما سبقها من شحنات تمّ رفضها، قبل عام ونصف العام تقريباً. وقد ينطبق الأمر نفسه على شحنة أسطوانات الغاز المعروفة، التي "دقّر" فيها مدير "المواصفات والمقاييس"، بالرغم من موقف الوزارة المتراخي تماماً في القضية.
ولعلّ الأمر المحيّر، بدرجة أساسية، يتعلّق بموقف وزارة الصناعة والتجارة في الحالات السابقة؛ إذ تنحاز فوراً إلى الشركات وليس إلى المؤسسات الوطنية، وتبدأ أصوات المسؤولين في الوزارة نفسها بالتشكيك بنتائج مختبرات "الغذاء والدواء" و"المواصفات والمقاييس"، والمطالبة بالرجوع إلى مختبرات عالمية، بدلاً من التأكيد على معايير هاتين المؤسستين وقدرتهما واعتمادهما محلياً وإقليمياً.
والطريف في الأمر أنّ هذا "التشكيك الرسمي" يتعلّق بعطاءات وعقود معيّنة فقط، بينما إذا كان الأمر صحيحاً، فالأصل أن يشمل كل عمل تلك المختبرات، بما يثير الشكوك بكل ما يدخل البلاد، وهذه كارثة حقيقية.
لا يُفهم تعنّت المسؤولين في الوزارة في الحالات السابقة، إلاّ في إطار وجود أخطاء معينة، مقصودة أو غير مقصودة؛ سواء في آليات طرح العطاء أو تقدير قيمة المواد المستوردة، أو حتى المعاينة واللجان المختصة التي تتولّى تقدير الأمور. وكل ذلك لا يجوز أن يكون مبرراً للتهاون بحقوق المواطنين، وبأهمية سيادة القانون وحمايته، والتأكيد على رفض مخالفة القواعد الفنية المتبعة. وإذا كان هناك تقصير أو خطأ من مسؤول أو موظف، فالأولى أن يحاسب وأن يتم الاعتراف بالخطأ، لا القفز إلى التشكيك بالمختبرات والقواعد المعتمدة لدى مؤسستي "الغذاء والدواء" و"المواصفات والمقاييس".
ثمّة علامات استفهام أخرى مهمة حول شحنة القمح الحالية والشحنات السابقة، والعطاءات، لن نخوض فيها حالياً. ولكن من المهم التأكيد على أنّ القضية أبعد من شحنة قمح أو أسطوانات غاز، بل هي مرتبطة بالأمن الوطني والمجتمعي، وبالمعركة الكبرى اليوم؛ سيادة القانون واحترام مؤسسات الدولة. وإذا كان باقياً لدينا مسؤولون "دقرين"، مثل د. عبيدات ود. الزبن، فأنا متأكد أنّ الأردن سيكون بخير، مش "وقّع ومشّي" و"تبويس لحى وأخذ خواطر"!