إسرائيل وداعش في خندق واحد ضد الوجود المسيحي

سأل السيناتور الأمريكي عن الحزب الجمهوري باتريك ليهي البروفيسور والصديق المرحوم إدوار سعيد عن سبب دفاعه المستمر والمستميت عن الإسلام على الرغم أنه مسيحي. سعيد الذي كان يتحدث في ندوة في مكتبة الكونغرس بحضور كاتب هذه السطور في عام 1998 قال ردا على هذا السؤال المستفز: "إنني أدافع عن الإسلام وموروثه الأخلاقي والإجتماعي والثقافي لأنني مسيحي فلسطيني مولود في القدس أنتمي للحضارة العربية الإسلامية التي بناها النبي محمد وبالتالي فإن دفاعي عن الإسلام وقيمه وتاريخه هو دفاع عن مسيحيتي فلسطيني وعربي".

سعيد دعا السيناتور الأمريكي المتعصب لإسرائيل وبعصبية لم يستطع إخفاءها إلى الكف عن محاولات الإيقاع بين المسلمين العرب وإخوانهم المسيحيين، لأننا والكلام لسعيد: " مسيحيون عرب أقرب للإسلام والمسلمين منكم كمسيحيين غربيين" مستشهدا بوقوف المسيحيين العرب بإستثناء موارنة لبنان مع إخوانهم المسلمين ضد الحملات الصليبية.

سمعت الكلام نفسه وإن كان بصيغة أخرى، يعبر عن إنتماء المسيحيين العرب للحضارة العربية الإسلامية من وزير الخارجية العراقي الأسبق طارق عزيز في عام 1996 عندما إلتقيته في الجمعية العمومية للأمم المتحدة وسمعته مرات ومرات من أستاذي الفاضل الدكتور كلوفيس مقصود سفير الجامعة العربية السابق لدى الأمم المتحدة وأستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الأمريكية. وبالتأكيد لا ننسى أبدا كيف بدأ الدكتور كامل أبو جابر خطابه في مؤتمر مدريد للسلام في 1991 حينما ترأس الوفد الأردني الفلسطيني المشترك بآية قرآنية تعبر عن احترام الإسلام للروح البشرية ونبذه القتل.

ما سردته من أمثلة ومواقف لمفكرين وساسة من المسيحيين العرب يعبر عما بات يعرف بأحد ركائز الحضارة العربية الإسلامية التي ننتمي لها ونفخر ونكبر بها حتى وان ادلهّمت الخطوب علينا كأمة عربية كما هي الحال الآن. ولعل التعايش الإسلامي المسيحي في وطننا العربي طالما لم يرُق ابدا لإسرائيل العدو التاريخي، في الماضي والحاضر والمستقبل، لنا كعرب وكمسلمين ولا نأتي بجديد إذا ما أضفنا أنها حاولت دائما التفريق بين المسلمين والمسيحيين، بل انها سعت لتفضيل المسيحيين الفلسطينيين على إخوانهم المسلمين في معاملات الخروج وتصاريح الزيارة لتأليب الطرفين ضد بعضهم بعضا، ومحاولة تحييد المسيحيين في النضال ضد الاحتلال وتسهيل هجرتهم إلى أوروبا وأمريكا.

لن نضيف جديدا إذا ما أشرنا الى أن إسرائيل عملت وبشكل ممنهج على إتباع الطرق والأساليب كافة لتفريغ فلسطين من المكون المسيحي، ربما لإضفاء طابع ديني على الصراع العربي الإسرائيلي، ليصبح صراعا بين المسلمين واليهود، وبالتالي تجييش الغرب وأمريكا ضد العرب، لان إسرائيل في هذه الحالة تكون في حالة "دفاع ضد الفاشية الإسلامية" على مختلف أشكالها سواء تمثلت بحركتي حماس والجهاد الإسلامي أو حزب الله أو القاعدة وداعش مع ملاحظة إدعاءات نتنياهو المتكررة بأنه لا فرق بين حماس وداعش في محاولة منه لتحريض الغرب على المقاومة الفلسطينية، فالإرهاب الإسلامي في نظره؛ واحد، سواء كان مقره غزة أم الرقة".

الكارثي في الأمر الآن هو إلتقاء إسرائيل وعصابات داعش الإرهابي في هدف واحد وهو تهجير المسيحيين العرب قصرا من الوطن العربي والإبقاء على الكثافة السكانية المسلمة، لأن كلا من إسرائيل وداعش تهدفان إلى إبراز الطابع الديني الشمولي الوجودي على جميع قضايا العالم العربي. إسرائيل تريد العالم العربي من دون مسيحيين ولهذا سعت إلى قوننة "يهودية" الدولة وإشترطت إعتراف الفلسطينيين والعرب بأن إسرائيل "دولة يهودية" بنما يسعى داعش إلى جعل خلافته المزعومة حصرا للسنة "الذين يسيرون على منهاج النبوة" حسب تفسيرهم وبالطبع لا مكان للمسيحيين ولا للرافضة الشيعة بينهم.

ما فعلته عصابات داعش في الموصل من تهجير قصري وتنكيل بحق المسيحيين وأتبعه بعملية ذبح جماعي للعمال الأقباط في ليبيا إنما يترجم العقلية الشمولية الإقصائية للعصابات الإرهابية وهو بذلك يستهدف أحد أركان الحضارة العربية الإسلامية: التآخي الإسلامي المسيحي الذي صمد أمام الكثير من التحديات التاريخية بدءا بالحملات الصليبية الفاشية في القرن الثالث عشر مرورا بالنكبة الفلسطينية عام 1948 والنكسة في 1967 مرورا بإجتياح الكويت في 1990 الذي فكك وشرذم النظام العربي الرسمي وقوض الأمن القومي العربي وكان سببا في الكثير من الويلات والكوارث كان آخرها ظهور عصابات داعش الارهابية التي خرجت من رحم الفراغ القومي الذي نتج عن حرب العراق الأولى وما تلاها من أحداث وتطورات ساهمت في استبدال الحركات القومية واليسارية بالحركات الأصولية المتطرفة.

نحن الآن في مواجهة تحد لا يمكن الاستهانة به أو التقليل من شأنه، وهو خطر تفريغ العالم العربي من مسيحييه تحت ضغط تهديد عصابات داعش وغيرها من القوى التكفيرية من جهة وضغط إنسداد الأفق أمام حل الدولتين، وتعاظم قوى اليمين المتطرف الإسرائيلي وفي الحالتين الوضع يشير إلى تغول الخطاب الديني المتطرف سواء كان الإسلامي أم اليهودي وهو سيناريو لا يروق أبدا للمسيحيين العرب.