معنى أوسلو الكارثي


 
لم يستفزني من أعمق أعماقي ووجداني، والتاريخ الذي تعلمته وعلمته ونشأت عليه إلى اليوم، والتوراة التي تؤكده، أكثر من استفزاز مطالبة الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، أمام الرئيس الفرنسي والعالم (بتاريخ 18 /11 /2013) بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين الذي بدأ في العام 1967؛ وكأن إسرائيل كانت دولة قائمة منذ مئات السنين، لكنها ما تزال تحتل هذا الجزء المجاور لوطنها. لا أعرف كيف استطاع الرئيس الفلسطيني إعادة تشكيل عقله ونفسه لنطق هذا الكلام، وإخراجه من حنجرته وفمه وبصوت مرتفع، وعلى مسمع ومرأى من العالم أجمع. كيف طاوعته نفسه، وكيف طاوعه عقله ليقول ذلك؟ ربما لأنه درّب نفسه عليه قبل "أوسلو" وبعدها.
عندما خرج هيرتزل من قاعة الاجتماع في بال في سويسرا الذي عقد فيها المؤتمر الصهيوني الأول العام 1897، سأله أحد الصحفيين آنذاك متهكماً: "بعد كم سنة إن شاء الله سنرى دولة لليهود في فلسطين؟ فأجاب: بعد خمس وخمسين سنة"، وهو ما تم بالضبط. 
وبعد حرب العام 1967 التي انتهت بانتصار إسرائيل على العرب في بضع دقائق أو ساعات، وليس في ستة أيام حسب تصنيع إسرائيل للرواية تشبها بالإله التوراتي الذي خلق العالم في ستة أيام، أصدرت ما كانت تسمي نفسها في حينه "جمعية السلام الإسرائيلية" كرّاسا يبيِّن أو يرتب مستقبل المنطقة، أو علاقات إسرائيل بها؛ الاقتصادية والتعليمية والسياحية، في الثلاثين سنة المقبلة بعد هذه الحرب (The Middle East in Year 2000 - A Project)، وهو ما حدث بالضبط، ولكن في أقل من ثلاثين سنة (للاطلاع على محتويات هذا الكراس، انظر كتابي: "خرج ولم يعد").
يراهن اليهود دوما على طول نَفَسهم وعلى النَّفَس العربي القصير الذي سرعان ما يتبدد ويتحول، وينقلب على نفسه وعلى مبادئه السياسية. ولعلنا بذلك نفسّر هذا التحول العربي الجارف من قضية فلسطين المقدّسة من البحر إلى النهر، إلى قبول قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242، بل وتوقيع منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاقية "أوسلو" المنكرة لحق الشعب الفلسطيني التاريخي والسياسي القانوني في وطنه (فلسطين 1948)، وقبول الشريحة المتبقية منها أو ما يسمى بفلسطين 1967. وبقبول ذلك القرار، بدأ التعري الفلسطيني الأول، وباتفاقية أوسلو كمل التعري.
قال إسحق رابين بعد أيام من اتفاقية أوسلو: "إذا كان وعد بلفور أعظم وثيقة في تاريخ اليهود لأنه أعطاهم وعداً بوطن قومي في فلسطين، فإن وثيقة أوسلو أعظم وثيقة في تاريخ إسرائيل لأنها نزعت من أصحاب القضية اعترافاً بأن الأرض ليست لهم". ومع هذا، فلن تقبل إسرائيل خطاب الرئيس الفلسطيني هذا، حتى وإن وافق على شروطها المذلة، من مثل الاعتراف بيهودية الدولة، مع أنه اعترف بها ضمنا في خطابه المذكور.
لا يريد الشعب الفلسطيني دولة في فلسطين 1967، حتى وإن كانت عاصمتها القدس، لأن هذه الدولة لن تستطيع النجاة من الألاعيب والأفخاخ الإسرائيلية، ولن تحل المشكلات الكبرى كمشكلة اللاجئين. هذا الشعب يفضل عليها دولة يهودية فلسطينية واحدة، أو إبقاء الأمر معلقا وإسرائيل قلقة وجوديا طيلة الوقت. 
الاستفزاز الثاني الذي يتكرر على أسماعنا كل يوم، هو تصريح الرئيس الفرنسي، وكل مسؤول غربي، أن قيام دولة فلسطين على حدود 1967، وتبادل الأراضي، هما الضمانة الفضلى لأمن إسرائيل. وليس لأنهم يؤمنون بحق الفلسطينيين في الدولة أو تقرير المصير. إنهم أحرص على أمن إسرائيل من إسرائيل نفسها، فكيف نصدقهم ونوسطهم وهم الطرف الذي صنع اسرائيل؟! إنهم ما يزالون صهاينة متطرفين. أما تبادل الأراضي المقترح، فهو كمين إسرائيلي خطير، يحمل في طياته طرد فلسطينيي 1948 من بيوتهم وقراهم ومدنهم التاريخية إلى أرض "السلطة".
يدّعي بنيامين نتنياهو أن لليهود علاقة بفلسطين تزيد على أربعة آلاف عام، متجاهلا -عمدا- أنها لا تزيد على ثلاثمائة عام حسب التوراة نفسها، وأنها قامت أصلا على الاغتصاب الأول لفلسطين من شعبها الكنعاني الفلسطيني الذي لم ينقرض إلى اليوم، بل تغيرت ثقافته حسب الغزاة والمحتلين والفاتحين. 
إن التوراة نفسها تتحدث مئات المرات، وبالأسماء، عن ذلك الاغتصاب لفلسطين قديما (فقد جاء ذكر الفلسطينيين في التوراة 295 مرة، والكنعانيين 64 مرة)، وعن علاقة الحرب والسلم والمد والجزر التي استمرت بين يهوذا وإسرائيل وبين الشعب الكنعاني الفلسطيني، والتي انتهت بتدمير إسرائيل ويهوذا. ثم نفي تيطس الروماني لهم منها العام 70م بعد عودتهم من المنفى، فأين الأربعة آلاف سنة من العلاقة بين اليهود وفلسطين؟ 
إن علاقة الشعب الفلسطيني بفلسطين تزيد على ضعف هذه المدة التي تمَّ في أثنائها اغتصاب اليهود لها مرتين: مرة قديما، كما ذكرنا، ومرة حديثا (اليوم) بدعم الغرب اللاأخلاقي الاستعماري. وللأسف، لا يستغل الإعلام الفلسطيني والعربي والإسلامي التوراة في إثبات زيف كل الادعاءات اليهودية الصهيونية الخاصة بفلسطين.