شذرات.. حول محاضرة


 

في التمهيد لمحاضرة خبير الطقس الشاب « محمد الشاكر» في منتدى شومان الثقافي الشهر الماضي بعنوان» الشباب والتغيير» قلت: لا تظنوا ان المنتدى كلفني بمهمة تقديم هذه المحاضرة على قاعدة « والحسن يظهر حسنه الضد» فنحن لسنا ضدين كما يتعمد أن يوهمنا أصحاب مقولة « صراع الأجيال» لأننا لا ننفك نواصل تداول المسؤوليات وتتابع الأدوار ونحتفي كل الوقت بممارسة «حوار الأجيال» حيث يأخذ كل مساره الصحيح دون افتئات على الآخر وليس بيننا من يماري في أن مستقبل الأمم تصنعه همم الشباب مع بعض حكمة الشيوخ، وفي النظرية الماركسية تفسير علمي لتطور المجتمعات يشرح الدور الطبيعي الحتمي للشباب كقوة نامية ناشئة تتقدم لتحتل مكان قوى آفلة ذاهبة، وما تشبث بعض كبار السن بمواقع القيادة إلا تعبير عن الخوف من ضياع المكاسب!.
لستم بحاجة لكبير عناء او شديد ذكاء حتى تدركوا ان قوى الشد العكسي في أي مجتمع تقودها في العادة فئة من كبار السن لكن هذه الحقيقة المؤسفة تخفي تحتها حقيقة مؤسفة مرافقة لها تشي بالدور الانتهازي لبعض فئة الشباب حين تكون ضالعة مع الفئة الأخرى لتقتات من فتات موائدها، كما تفضح السبب الكامن وراء «الفئتين» متمثلاً في المصلحة الذاتية لا مصلحة الوطن كما تزعمان !.
في صدر شبابنا قبل ستين عاما كنا نقرأ بشغف مقالات الكاتب الثوري الشاب إحسان عبد القدوس وكان على رأس ثلة من الشباب يحررون مجلة « روزاليوسف» المصرية بكل الجسارة والعنفوان، ولقد كتب ذات مرة « لا تصدقوا الكبار حين يفرطون في التغني بأيام زمان ويصفونها بأنها الأحلى والأجمل والأصفى والأسعد متباهين بها على الحاضر الذي يعيش شبابه حياة خاوية خاملة خائبة، فتلك مجرد نوستالجيا الحنين لعهد الصبا الذي ولى وانقضى، وهلوسة الأدمغة التي شاخت واعتراها الضمور..! اللافت ان الجرأة والصراحة عند إحسان عبد القدوس الشاب لازمتاه حتى بعد ان تجاوز السبعين فكرر نفس الكلام وهو يعلم انه يغضب بعض مجامليه، وأنا اليوم وبعد الثمانين ما زلت مؤمناً بما كتب!.
بين الشباب والشيوخ ليست القضية محصورة في عدد سني العمر فكم من هرم احتل موقع القيادة وخاض غمار المعارك السياسية و الفكرية بشجاعة واقتحام، وكم من صغار في السن كانوا يرتعشون ويترددون أمام المواقف الصعبة.. هنا تبرز الفروق الفردية بأجل صورها، اما العزم الجماعي فيقوى ويتعزز بضخ الدماء الجديدة في كل العروق.. وفي ا السياق نعيد التذكير بأن احد أسباب نكوص لغتنا العربية وتخلفها عن ركب التطور الذي تحرزه لغات العالم هو أننا تركناها «تهرم» مع «هرم» أعضاء مجامع اللغة العربية الذين لا يفارقون مواقعهم إلا إذا فارقتهم الحياة، او توقفت خدماتهم للحكومات التي عينتهم!.
صحيح ان كبار السن يحملون معهم كنوز الخبرة الطويلة لكن مديات تدفقها لخير المجتمع ولصالح التقدم تظل معقودة لا محالة على رغبتهم في نقلها للشباب هذا إن توفرت، او على قدرتهم قبل ان ينتابها الضعف والذبول! ولا بد في الحالين ان يفطنوا إلى ان زمانهم غير هذا الزمان وان معارفهم قد لا تصمد أمام منافسة المعارف التي أصبحت متدفقة سهلة المنال في عصر تكنولوجيا المعلومات.
لا يظنن احد أنها دعوة للتنكر للشيوخ أو دغدغة لمشاعر الشباب كي ينفلتوا من عقالهم ويزيحوا عن الطريق أولئك الذين تحملوا مشاق فتحها، لكن لا بد من الاعتراف بأن في كل زمان جيلا خليقا بأن يواصل إنعاش الحياة بنشاطه وحماسه شريطة التحلي بروح الاحترام لمن سبقوه، مستفيدا من رعايتهم الايجابية المجردة عن هوى التسلط والهيمنة، وفي مؤسسة شومان نموذج فذ ، إذ قبل ثلاثين عاما تسلم قيادتها شاب ذكي جريء هو اسعد عبد الرحمن فأكمل مشوار الشيخ عبد الرحمن بشناق فشهدنا معه حقبة ذهبية أدهشتنا، وقبل وقت قصير ترجل عن قيادتها شيخ آخر هو ثابت الطاهر ليسلمها لشابة مقدامة قبلت التحدي واقتحمت الميدان الشائك بكل جرأة وتعقل.. هي فالنتينا قسيسية.
وبعد.. اخرج اليوم على القاعدة لأدع «الشاب» محمد الشاكر يقول ما عنده براحة وحرية، بلا شيخ يتابعه أو يراقبه! وأسلم إدارة المحاضرة لشاب مثله يرافقه هو كامل الأسمر.
والسلام عليكم وعليكن.