كوابيس نشمي...الكابوس الثالث

تَحْدَثُ للمرةِ الأولى منذ تاريخِ زواجهما أنْ تَعلو أصواتهما لتبلغُ أطرافَ الشارع , لمْ يكُن تَدَهْورِ حالته المادية سوءاً في تخطيطهِ الاداريّ أو لحظةَ مجونٍ ولهوٍ بل كان هبوطاً اضطرارياً من واقع صعب تفادى به نهاية لا شك ستكون عواقبها وخيمة على الجميع...


عشرُ سنواتٍ من المُحاولاتِ الطبيّةِ الفاشلة ألقتْ بضلالِ الأسَى والحزنِ على عشِ زوجيةٍ لم يكتب اللهُ فيه بكاءَ طفل أو ضِحكةٍ بريئةٍ يُكِحِّل بِها عيون أمّهِ الراجية و تُعزّزُ روابطُ الحُبِ والأُلْفة التي أجتمعا عليها...

كانَ مؤْمِناً منذُ البداية بِقَدرِاللهِ, وما بين ضَغْطٍ عائلي هُنا وأملٍ طبيّ هُناك بَدَأت سِلْسلةِ معاناته تتعقّد ...لم يبق الا تلك القطعة الصغيرة من الأرض ثمرة كِفاحهِ الطويل وعزمه المتواصل حين لم ينجدهُ تأمينُ طبي باستثناءٍ اخلاقيّ أو اعْفاءٍ انسانيّ يُسْندُهُ في حرْبِ الشّراهةِ المالية والمحسوبية المزمنة في مشافٍ خاصة وعامة استفحل فيها فساد واستغلال برعاية رسمية حين غاب عنها تشريع صارم أو رقابةٍ قانونيَّةٍ وأُقْفِلَتْ محاضرُ أخطائها الطبيّة بخاتمِ القَضَاءِ وَالقَدَر... 
 
غيرُ المُدَخِّن ...يمْسِكُ سيجارةً عابرة ويَنْفثُ دُخانها بلا تركيز , يَزفرُ غَضباً ويتوّأه ألما.. فلم تستطع أعصابه تحمُّل قرارَ مديره الغريب بنقله الى دائرة أُخرى ,كان يعلم كجميع زُملائه انّه الاكْفأَ والأجْدرّ والأحق ويُدْرِك تماماً انّها الوسيلةُ الوحيدة التي يستطيعون من خلالها أزاحته بعيداً فيتسنّى تنصيب أخَرَ بَدلاً منه , ذاك المَركز الوظيفي الذي كانَ يعني له خًطوة مهمة في حياته حيث يجتمعُ فيه ظهورمشروع لعبقريته وابْدَاعه وتفانيه و منفعةٍ ماليةٍ لا بأس بها...استعاذَ وأستغفر ثم عاد أدْرَاجهُ الى مكتبهِ بعد أنْ حَزم حاجياته ومن بينها شهادةُ براءةِ اختراعٍ في تخصص علمي نادر ثم غادر بلا استئذان وقد تيقّن أخيراً صحة مقولة :انَّ الاكتشافات المتأخرة للضياع كانت خِنْجراً مسموماً في ظهورِ من أمنوا بأنَّ هُناك وطنٌ للجميع.....

كان حِوارهُ عالي الجودة في واقعيته فهو مكبلاً قانونياً من أنْ يعمل بوظيفة أخرى في وقته الخاص ,و يحتاج كل منهما الى عشرين سنة قادمة لفك الحصار الوظيفي ضمن قوانين ضّمان أجتماعي تُعَدّلُ توالياً بداعي التَصوّف المالي ...و لم يبقى في رصيدِهما الّا مَبالغَ شهْريةٍ لا تُسْمِنً ولا تُغْنِ منْ جوع بل تآكلتْ حتّى كادت تَنْقرِض , لكنّه في النهاية أستطاع اقناعها بفكرته...
لم يُرِدْ انْ يُقْسِمَ بِغَيرِ خِدمة بلده لكنَّ قًرارهُ بالهِجرةِ كان مَفرَّاً لا بُدَّ منه وما كان امْتناعِهِ من قبل بعدَ قبولهِ الأكاديمي السريع كمُهاجِر الى تلك الدولة الا عشقاً لأهلهِ ولأرضِهِ التي تَنازلتْ عنه قبلَ أنْ يفعل هو مُرغماً في مُحاولةٍ طبيّةٍ مؤلِمةٍ لخًلْقِ سعادةٍ أسريةٍ يتعلّقُ بها قشَّةً أمامَ غرقه المالي وعذراً من طعناتِ وظيفية متوالية قادتها عناوين النّزاهة و العدل الوظيفي.
هناك على بوّابة المغادرين التفتا معاً الى مودِعيهما ...

وفي لحظة تذكارية أخْرَجَ من جيبه أخِرَ قِطْعةٍ نَقْديَةٍ وطنية ورماها أرضاً وهو يقْتبِس : لولا انّ اهْلكِ أخْرجوني مِنْك ما خَرجْت.......