صورة في مرآة الثلج

على غير ما عليه كثير من الناس اليوم، يبقى الثلج بالنسبة لي فرحة واستبشاراً بخير وأملاً وبياضاً لا يحد..
فرصة للانغماس في الكون، وترك المدينة وما ارتكبته فينا، ما ارتكبناه فيها! والتأمل والإنصات إلى صمت الربى وصلاة الشجيرات والأغصان والمدى.
كل ثلج، أتخفف من حمل الأيام، وثقل الواقع، وقساوة اللحظات، أسير على غير هدى إلى غابة قريبة، مهتدياً ببوصلة القلب.. القلب الذي لم يعد غيره في الميدان!
أشم روائح السرو والصنوبر والاعشاب والزهيرات البرية صقيعية. أعدو كطفل صغير فوق الثلج، لا أعير بالا لمخاطر وعارض روماتيزم ومواعيد أدوية ضغط وسكري، ولوائح السرعات على كل الطرق، مستشعراً البرد القارص وعبق الحياة.
لا أحفل إلى أين قد تقودني خطاي. يغبطني أن أرى أثار تلك الخطى؛ وكأنها بصمتي في الأرض.. تقودني الى ذرى الغيم، وسلالم الذكرى، وضجيج أصدقاء ارتحلوا.. وما زالوا الى ارتحال.
ستقولون مجنون، وقبلكم حذرتني شريكة عمري، من هكذا جنون، غير أن صدى الريح على المنحدرات ما فتئ يهتف لجنون.
لا يمكن أن تعاش الحياة على مقياس مسطرة: نقيس سبل صرف الراتب بمسطرة، نقيس الجرأة والغمام والمشاعر والعواطف بمسطرة، لا نغادر دائرة الفرجار أبدأ، ونبقى نراوح بين وسائد النوم والروتين ودفء الرخام.
أجمل ما في تلك الرحلة إني حين يعتريني تعب، أشعل ناراً لذكرى، أتحلق حولها سويعات تحت الثلج، تحت صنوبرة عتيقة.. أسألها إن رأت صورتها في مرآة الثلج؟ فتجيب، بنبرة الاشجار الواثقة: من لم يرّ صورته في الثلج؛ لم يمر بذاكرة الارض، ولا كان.
أطلنا النوم، فأنت كثيرا ما تذهب الى عملك نائماً، تشارك في الافراح والجنازات وعيادة المرضى نائماً، تدفع فواتيرك نائماً، تستقبل زوارك أو تزور نائماً، تأكل نائماً، تغضب نائماً، تتحدث مع زوجتك وأولادك نائماً، حتى عواطفك.. نائمة.. فهيا.. الثلج.. استيقاظ، وتباً لكل الدوائر والفرجار والمساطر والركام.