لك.. يا أمي

تسيرين وحيده هائمة بلا اتجاه تعصف بك الرياح من كل جانب وشعرك الأسود الجميل أصبح كقطنه بيضاء ووجهك المشرق لم يعد كذلك غيرته طول السنين ... تبقين حبيسة الأنفاس... تهربين بوجهك بكل الاتجاهات.. تبحثين حتى لو عن كوخٍ عتيق حتى يرتاح جسدك المتعب الذي أتعبته قسوة الأيام ومشقة العيش أو هكذا أظن أنا... فلقد عشتِ حياتك من أجل غيرك تكدين وتنهكين وتطعمين من هم حولك.

ولم تعد تلك اليدين كسابق عهدهما في الطفولة.. إن كان لك طفولة تذكرينها، ففيها المحن والمشقة والهجرة، كان الجميع من حولك.. ثم بدءوا يبتعدون واحداً تلو الآخر، إلا أن أصبحتِ كما بدأتِ أنت وشريكك وحيدين .. وبعدها رحل عنك .. رحلة لا عودة فيها.. وترك لك الفراق والوحدة والحزن.

دائمة التفكير بهم والحزن عليهم، مع أنهم أصبحوا كبار.. ولكن تقولين .. هل يعقل أن لا أفكر بهم.. فهم فلذة كبدي وأبنائي وأخوتي .. وتفكرين بزوجك الذي مات، كان عليك أن تتشربي حسرات الموت وألم البعد والفراق .. وسهر ليالي المرض والتعب.

كم قست عليك الحياة فلقد أخذتك بعيداً .. كان عليك المسير فيها ، وهي كمشقة المشي في لهيب الصحراء أو التوهان في وسط المحيط .. وحاسبك ويحاسبك الجميع كما لو أنك لم تعاني أبداً ..

ننتظر منك الكثير، ننتظر حكمة الحكماء ، ورشد وهداية الأنبياء ، مع أنك بسيطة لم تفتح لك المدارس أبوابها ، فكانت موصدة من كل جانب ، فعليك يا فتاة العمل في البيت لمساعدة أمك ورعاية إخوانك ، والآن يا فتاة عليك الزواج ، وبعدها يبدأ كل شيء ، يكرس كل ما لديك للغير، وبعدها نحاسبك على كل صغيرة وكبيرة ، دون تقدير ودون رحمة أو شفقة ، نظن أنفسنا أننا نحن فقط على صواب ، وفي الحقيقة نحن لا نعرف من الصواب شيء، لأننا لم نفهم معنى بياض شعرك ولا تجاعيد وجهك ، وماذا فعلت بك السنين ، وكم شقيت من اجل الجميع ، ليس من المهم أن تفهمي كل شيء ، فأنت لم تفهمي قصيدة محمود درويش إلى أمي ، ولا طب الرازي ، ولكنك فهمت معنى أن تكوني أم ، تمسحين وتكنسين، وفهمت وتعلمت كيف تمسحين بيدك جباه عرق مرض من حولك ، من احبك ومن لم يحبك.

لكن سيصبح الجميع آباء وأمهات، وسيأتي وقت الجميع، لينظر لنفسه بأنانية أنه هو من يتعب، أو ربما لا، فينظر إلى من رباه وجعله أباً أو أماً، أو حتى من علمه كيف يكون كذلك ، عندها سنتعلم ونفهم ، ويحين وقت القول : أمي سامحيني على أي تصرف بدر مني دون أن أفصد إيذائك أو إيلامك.

لن نوفي الحقوق مهما فعلنا أو بررنا، ولكن دعونا نردد: ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا.

د.خالد جبر الزبيدي

Khaledjz@hotmail.com