عن محمد عبد الرحيم
وعدتك بالكتابة..
وها أنا، أكتب...
وها أنتَ ترحل يا صديقي، وها أنت تُنهي بهدوء حياةً ملأى بالضجيج، وها أنتَ تستأثر لنفسك مشهد يافا العتيقة من فوق، تجول في أنحائها، أزقتها، تتأمّل الشاطئ الممتلئ على آخره بالناس، وتستحوذ عيناك رؤية البحر الهائج، المائج، وها أنت تعود إلى لحظة الخروج.
ها هي يافا، أصلُ الحكاية، ومبتدأ كلمات ظلّت مَسار العمر، وصخبه، وظلاله، أمامك. ها هي الحياة المعبّقة، المُعبّأة، برائحة زهر برتقال، وليمون، وخشخاش، تحتك. ها هي التي حدّثني عنها أبي وجدّي، فأخذتني أنت إليها، وكُنتُ ما زلتُ، أيامها، في سنوات آخر الطفولة، لتُحوّل الذاكرة إلى واقع، فصارت ساعة الساحة ساعة، والعجمي عجمياً، والمنشية منشية، والجامع الكبير جامعاً، وكانت وما زالت شجرة الجمّيز مكانها، في المسعودية، وحولها بنايات يهودية تحت إنشاء. ها هي كلّها أمامك، وفوقك، وتحتك.
«الدودج» الزرقاء، وأنحاء فلسطين
ها هي يافا حولك...
كُنتَ تقودني إلى حيث حديث أبي، وجدّي، وكُنتَ تُلاعبَ موجات بحر يافا، حين أخذتنا لنسبح في ما كان يُسمّى «روبين»، لتضيع نظاراتك، فتستنفر عائلة بأكملها، أولادها وبناتها، في بحث عبثيّ لا جدوى منه، فتفاجئنا بأنّك تحتفظ بنظّارة بديلة في السيارة الزرقاء السماوية.
في تلك العربة، «الدودج» الزرقاء، كُنتَ تزجّنا وكأنّنا سمك صغير في علبة سردين، فنتعرّف على فلسطين الأولى، متراً بعد متر، مكاناً بعد مكان، قرية بعد قرية، مدينة بعد مدينة، دمعةً بعد أخرى. كان ذلك، في ذلك الزمن الرخو، بين احتلالين قديم وجديد. كان الوحش الإسرائيلي لم يهضم بَعد لقمته الأولى، وها هو قد التهم، للتوّ، وجبةً جديدة، وما بين ذلك وذاك، كنّا نغتنم الوقت، فنحرث البلاد، ونسرق اللحظات، ونُخزّن الذكريات، ونتعرّف على ما سينتهي إثره بعد قليل: على ما كان الأوّل من نكبتنا.
تلك كانت أياماً، لك يا صديقي خُلاصتها. وقبلها، بقليل، كان المشهد الحزيراني البائس: ذلك الخميس الذي حطّت فيه «الدودج» الزرقاء أمام بيت جدّي لأمّي في اللويبدة. كُنتُ هناك، مجرّد صبيّ عرف للتوّ أنّ قُدسه التي غادرها للتوّ قد ضاعت، وها هُم أحباؤه يأتون من رام الله، مع أعمامهم، وأبناء وبنات أعمامهم، يخرجون من السيارة بلا نهاية، واحدا.. اثنين.. ثلاثة عشر.. عشرين.. ثلاثين.. الله أعلم كم كان هناك من الأهل، صغاراً وكباراً، محشورين في السيارة، الشاحنة الصغيرة، في نزوح لم يستغرق سوى أربعين يوماً، لتعود السيارة نفسها، بحمولتها نفسها، فتخوض في مخاضة نهر الأردن، وتصل إلى حيث بدأت، إلى رام الله.
ها أنت وأنا، نكتب
ها أنت ترحل من رام الله، التي حطّت بها رحال عائلتك، لتكون بديلة يافا، وها أنا عاجز عن وداعك، وتقبّل العزاء بك في بيتك، تختلط في ذهني ذكريات جميلة، وأخرى قاسية، وتتنازعني مشاعر متناقضة، وتستغرقني آخر سهرة لنا، قبل أشهر، تلك التي طالت حتى مُقترب الفجر، في حوارات سياسة، وناس، وأماكن، وذكريات، وإذا بك تُفاجئني، بسؤالك: هل ستكتب عنّي؟ كُنّا وصلنا حينها إلى الحاجة الراحلة والدتك، ودورها في إعادة إنتاج العائلة بعد رحيل الأب، واضطرار الأخ الأكبر لصناعة قطع الحلويات في البيت وبيعها على مُفترق شارعين يافيين، بين مدرستين، وكيف كان يأتي بحصيلة اليوم إلى الوالدة، التي كانت تدّخر، وتدّخر، وتدّخر، إلى أن كان ما سمح، بعد الهجرة، ببناء معمل صغير، ظلّ يكبر ويكبر، حتى صار في رام الله من أكبر المصانع الفلسطينية.
ذلك كان آخر لقاء بيننا، استرسلتَ خلاله حتى ظننتك تكتب عن نفسك، وعائلتك، شفاهة، وفي لحظة، باغتّني، وقُلت: عدني بأنّ تكتب كلّ ذلك، فوعدتك، وها أنا ألبّي بعضاً من وعدي، ولك عندي يا صديقي، وصديق والدي، عمّي الذي عرف سنوات الهجرة فلسطينياً، وسنوات البناء أردنياً، ونال من سنوات سجن الجَفر قهراً، وسنوات رام الله «المحرّرة» حزناً، وها أنا أكتب.
ها أنا أعود للذاكرة، فلا أستحضر سوى محادثتي لك من بعيد: أنا في دبي، وأنت في رام الله، وفي المنتصف في أميركا ابن أخيك زكي، الذي كان يضع السمّاعة بيننا، لنتواصل، حيث لا اتّصال مباشر، وها أنا أقول لك: يا عمّي، أنا أطلب الآن يد ابنتك هلا، لتكون زوجتي، وليس هناك من جاهة ولا يحزنون، فتجيبني: هي لك. وها هو العُمر يمضي ليحضر أحفادك، منّي ومن ابنتك، دفنك، وبيت عزائك، وأنا غائب، يستغرقني الحزن، والقهر، والانتظار...