برنامج الدولة لمكافحة التطرف
أصحاب شعار "ليست حربنا"، حنوا رؤوسهم للعاصفة، وانتقلوا إلى خط الدفاع الثاني بشعار "لا للحرب البرية"، مع أن الدخول بقواتنا المسلحة إلى الأراضي السورية لم يكن واردا سابقا، وليس واردا حاليا. والتصور الثابت لدينا أن القوات التي ستدحر تنظيم "داعش" وتحل محله على الأرض، يجب أن تكون محلية، مهما توسع الدعم اللوجستي والفني لها من التحالف الدولي. وهذه المهمة ممكنة وقابلة للتنفيذ عراقيا في الأسابيع والأشهر المقبلة، بوجود الجيش العراقي وقوات البيشمركة الكردية، إضافة إلى قوات شعبية من أبناء العشائر والمناطق السُنّية. بينما في سورية توجد مشكلة إيجاد هذه القوة على الأرض، ولذلك يدور الحديث عن فترة طويلة نسبيا لدحر "داعش" نهائيا؛ فالأمر مرتبط بنشوء قوة عسكرية معتبرة للمعارضة الوطنية الديمقراطية والإسلامية المعتدلة، وتقدم عملية سياسية مع النظام الحالي تقود إلى نظام سياسي ديمقراطي بديل.
بعض المعارضين للحرب على "داعش" يتذرع بأن حربنا يجب أن تكون في الداخل، لمواجهة "الداعشية" في بلدنا. ونحن نوافق على ذلك. والحرب الداخلية على "داعش" هي حرب اجتماعية تنويرية، لمواجهة جذور التطرف الفكرية والثقافية والسياسية. لكننا على يقين أنهم سيعتبرون مكافحة التطرف خطة مشبوهة وإملاءات خارجية ومؤامرة. ونريد هذه المرة أن نرى الدولة كما هي في الحرب على "داعش"؛ تذهب بحزم وعزم لتطبيق الاستراتيجية الداخلية لمكافحة التطرف.
لقد أعلن رئيس الوزراء، أول من أمس، في افتتاح مؤتمر لمركز القدس للدراسات، عن خطة للحكومة لمكافحة التطرف، تشمل كل قطاعات الدولة. ولا بد أن المؤتمر الذي عقد تحت شعار "نحو استراتيجية شاملة لمكافحة التطرف"، وتستمر نقاشاته حتى اليوم، سيمد الحكومة بأفكار وتصورات إضافية لخطتها التي نفترض أنها ستكون فعلا خطة شاملة وبعيدة المدى، تشكل جزءا من ثوابت الدولة؛ لا تهمل ولا تضعف مع تبدل المسؤولين وتغيير الحكومات وتزاحم الأولويات.
لن ننجح في مكافحة التطرف من دون فهم جذور الظاهرة، وما تتغذى عليه. وقد تحدث الرئيس عن ذلك أيضا، وقال إننا أمام ظاهرة معقدة، أسبابها مركبة لا يمكن حصرها في سبب واحد، وهي تكررت في التاريخ العربي الإسلامي ابتداء بالخوارج. وحقا، ما أشبه الليلة بالبارحة؛ إذ نرى الصراعات المتعددة والمعقدة تأخذ في المشرق محورا رئيسا هو الصراع السُنّي-الشيعي على خلفية التحول في الإسلام السياسي نحو العصبيات الطائفية. وتحاول "القاعدة" والتنظيمات المتطرفة في كل بلد اختطاف التمثيل السُنّي، بتأجيج المشاعرالطائفية العدائية. وجذر المشكلة التي أوصلتنا إلى "الداعشية" هو بالأصل تسييس الدين، والقراءة الأحادية المغرقة في التطرف والرجعية والعنف للنصوص وللتاريخ. ويا لعجبي أن يزدهر هذا عندنا في زمن الثورة الكونية المعرفية والمعلوماتية.
إن عالمنا العربي والإسلامي يتعرض لكارثة كبرى، خارجة عن المعقول. والأدهى أنها لم تبلغ بعد ذروتها؛ فإذا ما استمر الاتجاه الراهن للأحداث، فإنها قابلة للتفاقم وحصد أرواح بأضعاف ما حصدت، وتدمير دول ومجتمعات بأكثر مما دمرت.
أمامنا معركة سياسية وفكرية كبرى لمكافحة التعصب والتطرف والانحراف الظلامي بالدين، ولاستعادة قيم الاعتدال والتنوير ومفهوم المواطنة الحديثة. ولا شك في أن تجفيف منابع التطرف يشمل كل الميادين؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لكننا نشير بصورة خاصة إلى التعليم الذي تحول، على مدار عقود، ليصبح أكثر تخلفا وانغلاقا ومنافاة للعقلانية والتفكير النقدي الحر، بل حاضنة مبكرة للتعصب الديني والانغلاق، وفي النهاية "الداعشية"، ولذلك قصة سنتحدث حولها.